اقتربت منّي، و أشارت إلى ثلاث شكارات قاب قوسين من امتلائهما. فهمت أنّها تستودعني و ديعة ثمينة. لم أشأ أن أفسد عليها قبولي الضمني الّذي اعتقدته، و أجابتها هزّة رأسي بالأيجاب. نعم سيّدتي سأراقب شكاراتك الثلاث.
هي امرأة هدّ الزّمن من قامتها الطويلة، فهي إلى التقوّس أكثر، و أخفى نعل ممزّق رثّ زارته كلّ ألوان الأتربة و انفتحت شقوقه للغبار المسافر معها للبحث عن قوت يومي، و أمّا ساقاها فهما نحيلتان تبدوان كعصيتين خلّفهما مؤدّب نسي أن يعلّمها حروف المعاناة اليومية. و انحنى ظهرها حتى صار نصف خبز طابونة بعد صهده بنار الأحمال الّتي تضعها عليه. كان وجهها يخبرك عن قصّة عذاب لا ترويها النساء الدّيمقرطيات، و لا تخفيها مساحيق الأكاذيب الخدّاعة. هي امرأة بألف.
ذهبت مسرعة تتعقّب دبابز بلاستيك فارغة، شاهدتها من بعيد وهي تقطع الطريق في سرعة كي تلحق بدبوزة لكزها الرّيح ففرّت مذعورة كي لا تسجن في شكارة صاحبتنا. فهي مصرّة أن تجمع كلّ ما يخلّفه الشّاربون للماء و القازوز.
عادت مسرعة بعد أن طوّقت صدرها بـ"ـكعبات" من الدبابز بعد أن هشمت كبرياءها و هرّستها تهريسا كي يسهل حملها. فهي في النهاية لا تختلف عن الدبابز الّتي تجمعها. فالحياة تدقّها دقّا بالتعب و الجري وراء فتات المال، و الدّبابز بعد أن يقع إفراغها تصبح صالحة للدوس و الإهانة و ربّما التعنيف.
شكرتني على خدمة المراقبة، وودّعتني قائلة : "الخبزة مرّة". صمتت أنا الّذي يعيش في بحبوحة الفراغ من كلّ شيء، و شعرت أنّها تعمّدت إسماعي رسالة قاسية عن حالها السّيئة . بعد علمها بأنني كنت مراقبا ليس لشكاراتها الثلاث، بل لها هي دون استثناء. نعم كنت أنظر إليها بفزع. فهذه المرأة قالوا لنا جميعا: إنّها تحرّرت. و اليوم يحتفلون بعيدها.
ثـقبت تلك الرّصاصة الكلامية كلّ هدوء داخلي، وحاولت أن أفهم : هذه المرأة هل تنتمي إلى جوقة النساء اللواتي يظهرن في اللتفزة مفتخرات فرحات مبتهجات مردّدات تلك الاسطوانة المشروخة: تحرّرت المرأة؟
في بلدي المرأة ليست واحدا أحدا، هي المتعدّد حسب رغبة السّياسي فهي مظلومة و مقهورة و جاءت القوانين كي تحرّرها من غطرسة شهريار الفاتك. و تكون عند رجل الاجتماع زوجة و أمّا و أختا و صديقة؛ ولكن كلهن يلعبن أدوارا تتبدّل حسب " كيدهن لعظيم". و تكون عند رجل الأدب امرأة شيطانة يطاردها بحواء قديسة. و تكون عند أهل الفنّ جسدا عاريا يصلح لجلب المال و الإثارة.
تلك المرأة التي رفضت زيف المتاجرة بها و أمنت بحقّها الطّبيعي و القانوني في قسمة الكون، فلا نقص و لا نقيصة و لا خداع و لا نميمة. المرأة هي الرّجل و الرّجل هو المرأة و هما وجهان لعمل إنساني يتطلّب وجودهما معا. فلا تفاضل ولا سمسرة. و كلّ مجتمع يؤذي المرأة و يسومها العذاب و يسقطها سواء بالمديح الكاذب أو النعيق السّافر فهو يبني أعشاش الغربان بدل المواطن الإنسان.