لم يكن ممكنا في هذه الدولة ألا تكون قوادا أو مرتشيا.
بدون القوادة لا يمكن لك ان تكون مواطنا صالحا وسيتم اعتبارك معاديا للحزب الدولة،فتتهم بأنك شيوعي او خوانجي او يوسفي أو نقابي،او اي داهية،وعندها لا تلوم إلا نفسك،لن يتحصل اولادك على المنحة ولا اللمجة ولن يذهبوا بعيدا في الوظيفة إذا توظفوا ولن تتم مساعدتك إذا جرفت مياه الفياضانات بيتك أو احترق بسبب صاعقة ،ولن تتداوى في المستشفى العسكري إذا أصابك مرض عضال،ولن تربح قضاياك أمام المحاكم،ولن تظفر بحق أو بباطل إذا كان خصمك " واصل" أي عضو في حزب بورقيبة .
لقد رسخ بورقيبة في أذهان الناس أن المواطنة ليست حقا بل نكتسبها بالولاء والتزلف والنفاق،ولذلك كاد الوالد يدوسني بقدميه يوم دعوته ان يرفض بطاقة الانخراط في الحزب،وقال لي بصراحة: بطاقة الحزب أهم لي منك ومن اخوتك،بدونها سنضيع في الزحام ولن يلتفت إلينا أحد،واعترف لي بأنه متضايق جدا من عدم انخراطي في الحزب ،وان العمدة ورئيس الشعبة يوبخانه في كل مرة لأن ابنه" معارض" ولا يعترف بفضل الزعيم الذي " دخّل الماء والضوء" وحرر المرأة وفتح المدارس!
وكان يضرب لي المثل دائما بقريبي رئيس الشعبة الذي أصبح نافذا وصاحب أملاك وكلمته مسموعة رغم أنه لم يتحصل على السيزيام.
وكان أشد ما تخشاه هنية أن يمنع عنها العمدة " كرني الدواء" بسبب تعنتي ورفضي بطاقة الانخراط في الحزب،وأعترف أنني كنت أشعر بتأنيب الضمير والكثير من المرارة ،كلما ماطل العمدة في منح ذلك الكرني الملعون،فتضطر هنية للتضحية بديك دجاجتها وبأكثر من " عشرة حيار عظم عربي" للحصول عليه.
لقد دمر بورقيبة مفهوم الوطن في ذهن الناس.
ونحن نعاني آثار ذلك إلى الآن.