نثني على الشعوب ونهجو الحكومات. تلك معادلة صحيحة ومنصفة. يقول البعض “هو واجبنا”، فيما يردّ البعض الآخر “من حقنا”. الشعوب باقية والحكومات زائلة. الحكومات لا تغير الشعوب التي تملك القدرة على تغيير الحكومات، ولكنها نادرا ما تفعل.
في العالم العربي لا تزال مشكلتنا تكمن في مفهوم الحكم. وهي مشكلة حُلّت في مختلف أنحاء العالم. كيف يمكن أن نقدم الشعوب على الحكومات، وهي لم تجتز بعد العتبة التي تؤهلها لاختيار مَن يحكمها؟
الحكومات تعرف ذلك، وهي لذلك تُصدم حين ترى أن هناك مَن يهجوها.
عالمنا العربي يئن تحت ثقل الجهل (أقصد التجهيل)، والفقر (أقصد الإفقار)، والتخلف (أقصد التضليل)، والبطالة (أقصد صناعتها)، وضياع قيم ما أن تُمسّ حتى تُدمّر كالكرامة الشخصية والمواطنة والحرية والمساواة والعدالة وسواها من القيم التي تؤكد حضور الفرد وسط الجماعة بصفته إنسانا. القطيع الذي انتهينا إليه لا يحتاج إلّا إلى رعاة. هل علينا أن نهجو الرعاة من أجل أن نثني على القطيع؟
المفارقة أن الشعوب العربية قامت بطرد الرعاة المحترفين واستبدلتهم برعاة هواة، فصار عليها أن تعلمهم مبادئ الحرفة التي لم يُخلقوا ولم يتعلموا ولم يتدربوا من أجل القيام بها. ولأن الهواة لم يُخلقوا للمواجهة، فقد التبس الأمر عليهم وعلينا.
اختفت الوجبة الأولى من قادة ليبيا الجديدة. “ثوار الناتو” لم يعد هناك أحد منهم يظهر على الملأ. أين ذهبوا؟ هل ابتلعتهم الأرض، أم أن جهة ما قررت أن توفر لهم مكانا آمنا، بعد أن انتهت مهمتهم؟
في العراق الجديد هناك المئات من الأسماء قد محيت ولم يعد لها ذكر. كان حملتها من رواد التبشير بالتغيير العظيم الذي سيحل بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين متبعين في ذلك تعليمات المحتل الأميركي.
كان هناك نوع من الوعد المؤكد بأن يلتحق العراق باليابان وألمانيا. الوعد الذي لاكته ألسنة أولئك المبشرين بدا سرابا، وهو ما صنع منهم أشباحا، لم يؤثر اختفاؤها على المشهد الذي استقبل آخرين، هم أكثر واقعية في التعامل مع المجتمع من خلال إفساده.
ربما يبدو الوضع السوري أكثر إقناعا في مجال البرهنة على صناعة الوهم.
لقد قُدمت المعارضة السورية بطريقة متقنة. المنقذون هم من صفوة القوم. أكاديميون وتقنيون ورجال أعمال وسياسيون منشقون وحزبيون متمرسون. شريحة تبهج القلب. بدلا من ضباط المخابرات هناك أساتذة جامعيون يقولون كلاما عن مستقبل ديمقراطي لشعب متحضر، يتوق إلى الحرية.
ما الذي تبقى من ذلك المشهد؟
لقد تبيّن بعد وقت قليل أن كل ما رأيناه لم يكن سوى واجهة. من وجهة نظر صناع المشهد فإن الشعب السوري لا يستحق أن يُرعى من قبل محترفين. هناك هواة، مهنتهم القتل ينبغي أن يتصدروا المشهد. كان كبير المفاوضين ذات مرة مجرما.
من الصعب القول أن هناك مَن يضحك على التونسيين الذين أشعلوا النار في العالم العربي بثورة ياسمينهم، ولكن أحوال العيش في تونس لا تشير إلى أن الرعاة الجدد هناك هم أبناء حقيقيون للرعية.
“مات الملك. عاش الملك” هتاف لم يفارقنا. لقد سقط الطغاة. غير أن اليوم الذي ستشك فيه الشعوب بدورها في إسقاط الطغاة لن يكون بعيدا. بالتأكيد كانت اللعبة أكبر من الجميع. بالتأكيد كان العالم العربي، ولا يزال، تحت النظر. وهو ما يجعله محطّ اهتمام راسمي خطط المستقبل.
هل علينا أن نكذب على أنفسنا لنصدق أن شعوبا تحظى بثنائنا كانت قادرة على التفكير في مستقبلها؟ تصعب عليّ الموافقة على ذلك وأنا أرى شعوبا لا تفكر إلا في استبدال راعٍ بآخر. في حالة من ذلك النوع لا يمكن التفكير إلا في حل خرافي وهو استبدال الشعوب بأخرى. لا ينفع إسقاط الحاكم ما لم يتبدّل مفهوم الحكم.
لم تتطوّر اليابان بعد الحرب العالمية الثانية إلّا لأن سكانها يابانيون، ولم تخرج ألمانيا من خرابها إلا بالألمان. وهو ما لم يفهمه العراقيون بشكل خاص، والعرب يشكل عام حتى اللحظة.