الذين قاطعوا الانتخابات، الكثير منهم كانوا غاضبين -وصادقين أيضا- بسبب "عدم تحقيق أهداف الثورة" أو ربما عدم حصولهم على شغل؛ وبعضهم يعتبر الديمقراطية حراما أو إثما داعيا إلى مقاطعتها؛ والبعض الآخر لم تكن تعنيه السياسة والانتخابات وحتى الثورة. ولكنهم جميعا -من حيث لم يريدوا أو من حيث لا يشعرون أو لا يعترفون- ساهموا عمليا في الوصول بالبلاد إلى المشهد السياسي الحالي والحكومة الحالية، بل وإلى موعد الاستحقاق الانتخابي القادم، إن لم يقع الانقلاب عليه قبل حلول موعده.
ليس هذا فقط وإنما كل النتائج التي حصلت حتى الآن على مستوى ازدياد البطالة وتدهور قيمة الدينار وتوقف التنمية أو كذاك السياسات التي ستطبق بالرفق أو بالقوة، كل ذلك هو من صنع سبابات أيديهم اليمنى التي لم يغطسوها في الحبر. نعم هم لم يدلوا بأصواتهم، إلا أن نتيجة ذلك كانت صعود "النّظام الفاسِد والحُكّام الضعفَاء" الذين كانوا ويبقون دائما على قدّ من انتخبهم، ومن لم ينتخبهم أيضا. كيفما تكونوا يولى عليكم. فإن كانوا ضعفاء فأنتم أضعف، وإن كانوا فاسدين فأنتم كذلك.
وبالتالي فبأي حق تنتقدون اليوم أداء هذا الحزب الحاكم أو سياسته حتى وإن مس وجودكم، وحدّ من حرياتكم أو حتى سبّب لكم الجوع والعطش والمرض، طالما أنكم لم تخشوا منه ذاك يوم الانتخابات؟ وبأي حق أنتم تلومون هذا الحزب أو ذاك على خيانته أو تراجعه أو انبطاحه أو حتى قطعه للطرقات، طالما أنكم لم تكلفوه بحمل آمالكم أو التعبير عن صوتكم؟ أغلقت السجلات.
وعلى أية حال فمن لم يعط صوته يوم الانتخابات، فليحتفظ به إلى ما شاء، فذلك لن يُجنبه نتائج احتفاظه بذاك الصوت العزيز، أو فليرفعه -إن بقيت له فرصة في قادم الأيام والأشهر- في الشوارع والساحات احتجاجا على محاصرة نشاطه السياسي أو حتى منعه، أو طرده من الشغل أو معارضة للإجراءات اللاشعبية التي ستعلن عنها الحكومة خضوعا لتوجيهات المؤسسات المالية الدولية أو السفارات والقناصل الأجانب.
تصوروا فقط أن الذين قاطعوا الانتخابات ذهبوا يومها للتصويت لفائدة أي حزب آخر غير الحزب الحاكم اليوم، نداء تونس، فهل كان بإمكانه أن يتغول اليوم على الجميع؟ وهل كان يمكنه أن يرهن البلاد أو يتوعد الموظفين بتسريح الآلاف منهم، وإثقال الشعب الكريم بضرائب إضافية وبالتقشف؟ أو هل كان بإمكانه أن يتخذ "إجراءات تؤلم الناس وتفرط في البلاد" حسب تعبير أحد المذعورين اليوم؟
الذين قاطعوا الانتخابات يومئذ احتجاجا على عدم الإيفاء بتحقيق أهداف الثورة أو بسبب الشهداء والجرحى، هل تراهم اليوم يسمعون أحدا من الوزراء يتحدث عن الشهداء وجرحى الثورة؟ هل مازال من يبكي على تلك التي لم تُطعم لحما منذ شهر ونيف؟ هم قد لا يعرفون اليوم أن الانتخابات الماضية، ربما كانت آخر فرصة لهم، فضيعوها إصرارا، وحينئذ لا عزاء للأغبياء. اليوم موتوا بغيظكم.