لم تتعامل التيارات الإسلامية المعتدلة أو المدنية، أي غير الجهادية، مع الظاهرة الداعشية بطريقة صحيحة، أي بما يمكّن من تمييزها عنها، ورفض أي صلة بمنطلقاتها وممارساتها، وبعزلها وتفنيد أطروحاتها، ورفع الغطاء الإسلامي عنها.
في الحقيقة فإن هذه التيارات لم تر أيّ مخاطر أو تحديات تنجم عن صعود الجماعات الإسلامية العنيفة والتكفيرية على المجتمعات العربية، وعلى وحدتها وثقافتها واستقرارها وعلاقتها بالعالم، في حين تبين بالتجربة، وبثمن باهظ، أنها تشكل خطرا كبيرا على هذه المجتمعات، وأنها أضرّت حتى بشرعية وصدقية التيارات الإسلامية المعتدلة في مجملها، التي باتت في موضع تساؤل، بعد أن بدا وكأن لا فرق بينها وبين الجماعات الإرهابية التي تتغطى بالدين.
طوال الثلاث السنوات الماضية من صعود “داعش” (وهذا يشمل منظمة “القاعدة” وأخواتها)، بدا من الصعب إيجاد مواقف واضحة وحاسمة صادرة عن التيارات الإسلامية المدنية، ولا سيما جماعة “الإخوان المسلمين”، تدحض ادّعاءات وممارسات الجماعات الإرهابية التكفيرية، المتطرفة والعنيفة، التي تدعي الوصاية على الدين والوكالة عن الله، وتنكل بالمجتمع؛ بالمسلمين وغير المسلمين، ربما باستثناء اجتهادات حركة النهضة التونسية، وقادتها، وخاصة راشد الغنوشي وعبدالفتاح مورو.
هكذا فإن السؤال هنا يتعلق بمواقف جماعات، وليس بمواقف أشخاص، ولا سيما ما يخص التيار الإسلامي الأعرض والأقدم، أي جماعة “الإخوان المسلمين” في سوريا ومصر والأردن وفلسطين (حماس)، علما أن الحركة الأخيرة استأصلت ظاهرة كهذه في غزة، بالعنف، دون القطع مع أفكارها، ودون أن يحدث ما يقطع بين ثقافة هذه الحركة وثقافة تلك الجماعات.
فمع كل التقدير لرفض جماعات “الإخوان” لادّعاءات “داعش”، و“القاعدة” وأخواتها، وإدانتها لبعض ممارساتها، إلا أن ذلك تركز فقط على الممارسات المشينة الوحشية والإجرامية لهذه الجماعات المتطرفة، في حين الأجدى، والمطلوب، دحض منطلقاتها النظرية، وضمنها فكرة تطبيق “الحدود”، التي تعتبر عند الكثير من الفقهاء مجرد حدّ أقصى، لا سيما وأن التاريخ الإسلامي لم يعرفها على هذا النحو الظالم والتعسّفي، إذ تجنّبت التيارات الإسلامية أيّ نقد أو مراجعة لهذا المجال.
هكذا لم تفنّد التيارات الإسلامية، أيضا، فكرة “الجاهلية” التي تقيس الحاضر على الماضي، والتي تكفّر المجتمع، وتدّعي العصمة، وتحصر جماعتها فقط بالمؤمنين في حين تكفر حتى المسلمين الذين لا يتبنون معتقداتها أو تهويماتها. كما لم تفند تلك التيارات فكرة “الحاكمية”، التي تؤسس لقيام سلطة تحتكر تفسير الدين، وتدّعي العصمة والقدسية، باعتبارها ذاتها بمثابة وكيلة الله على الأرض، ما يخلق سلطة مستبدة، تضع نفسها فوق الشعب، وبالتالي خارج المساءلة والمحاسبة.
أما انتقادها فكرة “الخلافة” الداعشية فقد انصبّ نقدها على مجرّد تسرّع “داعش” في إعلانها، وعدم توافر الظروف المناسبة لها، عوض اعتبار الخلافة مجرّد نظام سياسي، تمّ الأخذ به في مرحلة معينة، وأنه ليس من أحكام الدين.
وأخيرا تأتي مسألة حرية الرأي والتعبير والمعتقد وفق قوله تعالى “لا إكراه في الدين”، و”من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، و”ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”، و”لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا”، فهذه كلها رغم أنها آيات قرآنية حاسمة وواضحة إلا أنه جرى تجاهلها أو إزاحتها تماما. وطبعا لا حاجة لنا هنا للحديث عن حطّ هذه الاتجاهات لمكانة المرأة، واعتبارها بمثابة عورة أو مجرّد جسد للمتعة لا أكثر، أو بمثابة إنسان ناقص، مستلب الحقوق، فهذا أمر معروف.
في هذا الإطار تكمن مشكلة جماعة الإخوان السوريين، مثلا، ومن ضمن ذلك نقدها “داعش”، في عدم تمسكها بوثيقتها لـ“العهد والميثاق” (مارس 2012)، التي تؤكد التزامها بدولة القانون المدنية الديمقراطية وبالحرية والمساواة للمواطنين، وعدم تحويلها ثقافة إلى عامة في أوساطها. والحال أنه قد كان من شأن ذلك تقديم صورة أخرى عن تيار إسلامي منفتح ومتكيّف مع الواقع والعصر والعالم، يعزز مكانته في مجتمع السوريين بمختلف تلاوينهم وطوائفهم، ويضع حدّا لأدعياء الإسلام من أمراء الحرب في سوريا، ولا سيما من المحسوبين على “داعش” و“جبهة النصرة” أو أخوات “القاعدة”.
قصارى القول لا يمكن للتيارات الإسلامية المعتدلة والمدنية أن تميز نفسها عن الجماعات الإرهابية التكفيرية إلا بالتميز عنها وعزلها ودحض أطروحاتها ورفع الغطاء الإسلامي عنها، فهذه مهمّة التيارات الإسلامية قبل أن تكون مهمّة التيارات العلمانية أو القومية أو الليبرالية أو اليسارية، فهذا هو الطريق لمصالحة التيارات الإسلامية المعتدلة مع الواقع والعصر والعالم وتعزيز صدقيتها وشرعيتها، بالتفريق بين الدين والدنيا، وبين الشريعة والشرعية، والتحول إلى كيانات سياسية بمعنى الكلمة تعنى بقضايا الإنسان، وبقيم الحرية والعدالة والمساواة.