منذ انطلاق شرارة التغيير اﻷولى في تونس، تسارعت وتائر الجدال حول أدوار المثقفين والمستنيرين في ظل مشهد ضبابي سرعان ما سيكون محط تلاعب اﻷمم جميعا.
الربيع العربي مرآة للمثقفين
تزامنت عبر التاريخ أدوار المثقفين والمستنيرين والفلاسفة مع الحراك السياسي والمجتمعي، فكانت أدوارهم هي أدوار مساندة ومكملة وناقدة ودافعة لعجلة التاريخ، وكانت اﻷفكار الفلسفية لبنات النظم السياسية والاجتماعية تتغذى كل منهما على الثغرات في البناء الواقعي لها، فتراجع وتتراجع، أو تتقدم كلتاهما وفقا لما تستحدثه المشكلات الطارئة. هذه الحركة لطالما بدت طبيعية في ملازمتها للنهوض الفكري والحضاري، وفي هذا اعتراف فعليّ بضرورة الأدوار التي يؤديها المثقفون في نطاق أحوال بيئاتهم والبيئات التي تستهويهم ضمن مجال التأثر والتأثير.
في ظل التقلبات السياسية الفلكية التي تشهدها المنطقة العربية منذ انطلاق شرارة التغيير اﻷولى في تونس، تسارعت وتائر الجدال حول أدوار المثقفين والمستنيرين في ظل مشهد ضبابي سرعان ما سيكون محطّ تلاعب اﻷمم جميعا في سياق الهيمنة على مصائر شعوب المنطقة.
نتيجة ذلك رأينا حالة انقسام في صفوف المثقفين العرب. فقسم منهم أنكر حالة الصمت وراح يكتب ويتفاعل ويجذّر ويؤصل أسباب المأساة، في بادرة فهم وإجلاء جزء من السوداوية التي تسكن مشهد الزلزال العنيف الذي ضرب أركان المنطقة العربية وشرعت تردداته في رسم ملامحها من جديد.
في هذه اﻷثناء صوّب القسم الثاني حراب النقد على من بادروا في تلك المحاولات ووصموهم بأشد الصفات وأنكروا عليهم جهودهم بذريعة أن ما يجري أكبر من أن يتم طرحه على مائدة الثقافة واﻷدب واعتبروها حرباً أدبية وثقافية استباقية على اﻷشكال السياسية التي من الممكن أن يفرزها مشهد المخاض.
وهنالك قسم ثالث من المثقفين لا يمكن إنكاره وهم المثقفون العدميون الذين راحوا يعتزلون مشهد الثقافة واﻷدب في خضم ما يجري، ويعزلون، بالضرورة، أنفسهم فكريا وثقافيا عن الواقع ويستحثون محاولات البقاء والتعايش مع المعطيات القائمة وقد داهمتهم الوقائع العنيفة حد الصدمة تلك فسكتت أقلامهم واكتفوا بمراقبة ما يجري بذهول كوني وعجز أبجدي.
احتدمت الصراعات على اﻷرض وصار العبث يطارد أدوار المثقفين ممن اختاروا عدم الصمت فيغلبهم ويغلبونه إلا أن أقلامهم ظلت تكتب وتؤرخ للمأساة كل في حقله، فكان خيار البقاء والاستمرار استحقاقا في أعناقهم إيمانا منهم بعدالة تطلعات من سقطوا في تلك الصراعات ووفاء لتضحياتهم، مهما كانت النتائج على الأرض مخيبة للآمال.
إن نظرة متفحصة في نموذج من مثقفي فلسطين وسوريا على سبيل المثال تكشف عن بؤس حالة الذهول التي أصابت هؤلاء. وهكذا رأينا من أخذ يلوذ بالدكتاتور ويمعن في تمجيد أفعاله ومواقفه كلما أمعن ذاك في جريمته، خالعا عليه صفات الزعيم القومي من دون ما استحقاق أخلاقي. وبنظرة على بعض النتاجات اﻷدبية والثقافية في هذه المرحلة نراها تعكس حالة من اﻹفلاس الرؤيوي، نصوص التزلف تغص بها المكتبات، ونصوص التضليل أيضا، فكان من الشعراء، والكتاب هنا في هذا الفريق، من كلل مسيرته بعرفان للدكتاتور. ربما ﻷن أحدا من هؤلاء البطرياركيين لم يعترف به بطرياركا، في حقل وجوده الأدبي، فجنح مع من جنحوا إعجاباً وتضليلاً وتسويغا لسفك الدماء في حسم المصائر.
وهكذا صار الربيع العربي فرصة ومرآة للمثقفين والقراء والجماهير كي يتعرف كل منهم على اﻵخر وأين يقف من مسؤولياته في لحظة التغيير التي حملها لهم التاريخ. فإذا بهذا الربيع يحمل معه مرآة جلية رأت فيها الثقافة العربية خريفها العاري، ورأى الشارع وجوها ممن كانوا يعدّون أعلام الفكر والفن والأدب يلبسون أزياء القتلة ويصطفون في صفوفهم ويعملون منظرين ﻷفكار اﻹقصاء واﻹذلال التي سادت العالم العربي لنصف قرن مضى.
على أن هذا اﻷمر يندرج في خانة الضارات النافعات، فقد أصبح الفرز على أشده، وانجلت ثلوج المزايدات النظرية، وبانت الحقائق ومعها حقيقة المشروع الثقافي الذي يؤسس له كل من هؤلاء البطاركة، بينما القارئ النبيه يقلب فكره في كتبه وخياراته الثقافية مسائلا الكتبَ عما كتب فيها من زيف أو حقائق. بعد أنهار الدم، والمآسي الكبرى لن يبقى القارئ العربي كسولاً.
أخيرا، إن اﻷدوار الثقافية في مفصل التحولات الحالية لا يمكن أن تعتبر أدواراً هامشية حتى وإن أعطاها حملتها هذا الطابع، فتظل أدوار المثقفين أدوارا سباقة وخلاقة يعكس رديئها وجه حامله وبيئاته السياسية وخارطته النفسية، ويستأثر الجديّ منها بانتباه التاريخ وانتباه من يخوضون معركة إعادة تشكيل الواقع والمستقبل.
ولو ذهبنا بعيدا عن صور الواقع العربي، فثمة ما يثير الانتباه ويستدعي التساؤل في آنٍ معاً ممثلاً في غياب أصوات مثقفي الحرية في العالم. اختفاء أبناء الديمقراطيات العريقة في الغرب. أولئك الذين وقفوا على الضفة الأخرى من صراخ أهل الشرق المتطلعين إلى الحرية. حتى ليخيّل إلينا أننا لا نعيش في عالم واحد ولكن في عالمين مختلفين، عالم العبيد، وعالم الأحرار. وما تلك الديمقراطيات التي قامت على إرث ثقافي وُلِدَ في ظروف تاريخية خاصة، بعد ممازجة حضارات عديدة ومتنوعة، سوى ديمقراطيات خاصة لا يمكن تعميمها أبداً!