لقد بات من أوكد المسائل اليوم في تونس الثورة إعادة النظر في المسألة الجبائية برمتها نصوصا وهياكل ومتدخلين خاصة لبلد كتونس يفتقر إلى الموارد الطبيعية القادرة من خلال مردوديتها المالية العالية على إشباع الخزينة ومن تغطية الدّين الخارجي وأيضا تمكن من الإعداد بكل أريحيّة للميزانية السنوية للدولة.
ومن غير الخافي على كل متتبع للشأن الاقتصادي التونسي في مجمله أن الموارد الأساسية للخزينة التونسية إنما هو التحصيل الضريبي الذي يتجاوز في بعض السنوات الأخيرة حدود80% من موارد ميزانية البلاد رغم الاستجابة غير الطوعية في أكثر الأحيان من المطالبين بالضريبة من أجل المساهمة في ترفيع مداخيل الدولة ذات المصدر المحلي ما يكلف مبالغ كبيرة وجهدا متواصلا وربما احتقانا اجتماعيا وركودا اقتصاديا واستثماريا.
كما أن التحصيل الضريبي في تونس لم يكن مستفيدا – قبل الثورة – من الكثير من الموارد وذلك لعوامل كثيرة منها ما هو مرتبط بالشأن السياسي أو الاجتماعي وكذلك بالضبط القانوني أو اللوجستي الشيء الذي أضاع على الخزينة إمكانات كبيرة كان يمكن أن تساعد في دفع المنوال التنموي نحو الاتساع ليشمل الأفراد غير المؤطرين والمناطق المحرومة والجهات المهمشة. .ولعل ذلك كان من أهم العوامل التي أدت إلى انخرام التوازن الجهوي حيث ظهرت التراتبية المتباعدة بين جهات الوطن الواحد وغيب العدالة الاجتماعية وذلك بتراجع انتشار الطبقة الوسطى الضامن الحقيقي للسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي ما أدى إلى تقهقر القدرة التنافسية للاقتصاد التونسي وتدني مستوى الرفاه الاجتماعي والرقي التنموي .
أمام هذا الوضع الانتقالي الدقيق والاهتمام المتزايد من قبل السياسيين بالاستحقاقات السياسية الصرفة كتأسيس الأحزاب والحراك الانتخابي والتأسيس للجمهورية الجديدة التي لم تتضح بعد ملامحها العامة سواء من حيث النظام السياسي أو النظام الاجتماعي أو التوجهات الاقتصادية إلا أنه من الواضح الجلي لكل ملاحظ ان تونس ليس لها من الموارد الذاتية الطبيعية مثل الطاقة ومخزون المياه ما يمكنها من بناء اقتصاد معافى ومستقر ومستقل عن باقي اقتصاديات الهيمنة.
غير أن الثابت أمام كل هذه المتغيرات السياسية والاجتماعية والدولية هو أن الموارد المستقبلية لخزينة الدولة التونسية ليس لها خيارات واسعة لتلبية الحاجات الملحة للإنفاق العمومي وتمويل برامج تنموية إلا من خلال بابين اثنين:
• الأول هو التداين الخارجي.
• والثاني التحصيل الضريبي من خلال إصلاح جبائي جذري وصارم.
أما عن التداين الخارجي فقد جربت الشعوب الفقيرة وخاصة في العالم الثالث هذا الشكل من الحلول الذي يمكن السياسي من الراحة النسبية ومن مهلة استقرار للأوضاع باعتبار الإشباع الذي يدره هذا الدفق السريع من السيولة في الخزينة حيث يتمكن السياسي من إنفاذ و تنفيذ برامج آنية سريعة لعلها تسكينية أو ترقيعية لإظهار الحضوة والقدرة على المناورة مع الدول المانحة أو المقرضة وكذلك لتكميم الأصوات المنادية بالمعارضة الداخلية من خلال سرعة حل المشاكل واستدرار الأموال الأجنبية التي لا تخلو من إرتهانات ورهانات أصحابها على مستقبليات تونس وشعبها .وإذ جربت شعوب العالم الثالث ولنقل الشعوب الفقيرة أو المفقرة هذا النوع من التمويل للخروج من أزماتها المرحلية إلا أنها أوقعتها في أزمات هيكلية للاقتصاد واستدعاء الترهل الاجتماعي من خلال انتشار قيم الربح السريع والسهل وغياب عناصر المبادرة الشخصية والجماعية إلا من خلال بعض المتنفذين أو عصابات المال الحرام أو الفاسد ما يؤثر على تداول الأموال والسلع المجهولة المصدرة ما يشيع الاحتكار والاهتزازات داخل الأسواق وعدم الاستقرار الذي يبني التضخم وجمع المال والمبادرة عند جماعة أو طبقة من الجشعين وبالتالي تتيح التساهل الإداري والفساد السياسي وينقلب السحر ولكن ليس على الساحر هذه المرة بل على الأجيال التي تقبل على الحياة مثقلة بالديون أولا وبالشروط الاقتصادية ثانيا وبالإملاءات السياسية ثالثا.لذلك فإن هذا الخيار في تمويل الخزينة للبلاد التونسية بعد التجربة التي خاضها المجتمع التونسي منذ أواسط القرن التاسع عشر وما جرته عليه من ويلات أدت إلى ارتهان تونس حكومة وشعبا ومقدرات لصالح الدائنين الأجانب .ولذلك فإنه يمكن للشعب التونسي الذي قام بثورة على الأوضاع الفاسدة وأطلق شرارة في الجوار لتقلب الأوضاع المحيطة به يمكنه وبكل حزم وعزم شطب هذا الخيار المتساهل والذي يشي بفساد نية الذين يمتطونه من خلال تسليمهم مقاليد الحكم ومفاتيح المدينة للأجنبي دولة كان أو بنكا أو منظمات دولية .
وأمام هذا الموقف الشجاع الثوري المتمثل في الاعتماد على الذات ورفض المديونية الخارجية والارتهان للخارج كيفما كان لابد للشعب التونسي ولطلائعه المثقفة أن تنظر في شأن التمويلات الداخلية للخزينة التونسية من خلال رأسمال وطني متمسك بثوابت الاستقلال من خلال منوال تنموي جديد يقوم على أساس استنفار الهمم الوطنية والجهوية للبناء والاستقلال يلتزم التنمية العادلة بين الفئات والجهات والتوازن بين القطاعات الانتاجية (الفلاحة الصناعة الخدمات) وأيضا أن ينظر أهل الاختصاص في الإصلاح الجبائي الذي يجب أن يعيد صياغة المنظومة الجبائية كاملة من حيث منظومة القانون والانتظام الهيكلي الإداري والمهن الحرة المتدخلة في الجباية من أجل صياغة مشتركة تضمن حرية المبادرة وعدالة توزيع العبء الجبائي والتكافل بين طبقات المجتمع وجهاته من أجل أن تبقى تونس منيعة على التدخلات الأجنبية والمراهنات الخارجية على استعمال تونس رأسا لحربة مصالحهم في تحويل المجتمعات المحيطة واستعمالها كبالون اختبار لمشاريع الهيمنة والسيطرة والتدخل الأجنبي الناعم.