شكلت انتخابات السابع من أكتوبر بالمغرب محطة سياسية مهمة جدا لقياس مدى التقدم الذي حصل في العملية الديمقراطية بالبلاد، واختبار دستور 2011، وشعار “الإصلاح في ظل الاستقرار” الذي رفعه المغرب عقب أحداث الربيع العربي قبل خمس سنوات. وتبين اليوم أن مختلف الفرقاء السياسيين استطاعوا التكيف معه، وإن حصل ذلك في ظل حالة من المشاحنات السياسية خلال ولاية الحكومة السابقة.
ولعل هذه الانتخابات، التي جرت في أجواء هادئة، على عكس التوقعات التي رشحت أثناء الحملة الانتخابية، تعد تجربة فريدة يمكن الخروج منها بخلاصات أو دروس. أولى تلك الخلاصات أن العملية السياسية تجري ضمن إطار محدد يشكل حاجزا أمام التوترات التي من شأنها أن تمس بالاستقرار السياسي أو تهدد ما يسميه المغاربة “التوابث”، وهي المؤسسة الملكية والإسلام والوحدة الترابية للبلاد. ذلك أن هذه العملية السياسية لا تتعلق بالنظام الملكي الذي يحقق حوله الإجماع بين مختلف التوجهات، الأمر الذي يشكل ضمانة للاستقرار والاستمرار في ذات الوقت. فالتباري السياسي يقع في إطار التدبير للشأن العام بعيدا عن المؤسسة الملكية التي تظل مناط الشرعية الكبرى في الدولة، ويعد هذا عنصرا أساسيا في منع سقوط المغرب في المزالق التي حصلت في بلدان أخرى.
الخلاصة الثانية ترتبط بثقافة التوافق التي نجح المغرب في تجريبها خلال أكثر من عقد من الزمن، أي منذ انتخابات عام 2002، والتي بمقتضاها أصبحت الجولات الانتخابية تحظى بنوع من الإجماع حولها من لدن مختلف الفاعلين السياسيين، بعيدا عن الاتهامات التي كانت توجّه إلى الدولة أو وزارة الداخلية بالتزوير وتحريف النتائج لخدمة حزب معين.
ويعود ذلك من ناحية إلى الوعي المتحصل لدى الدولة والطبقة السياسية معا بأهمية الانتخابات في عكس الإرادة العامة للمواطنين، ومن ناحية ثانية إلى رغبة العاهل المغربي الملك محمد السادس في تمكين البلاد من انتقال ديمقراطي حقيقي يتم في ظروف مرنة وتطور تراكمي.
الخلاصة الثالثة أن هذه الانتخابات أجريت في مناخ مشحون طبعته ردود الفعل المتبادلة بين الإسلاميين وخصومهم، خاصة حزب الأصالة والمعاصرة الذي كان ينافس على المرتبة الأولى، وهو ما أدّى إلى هبوط في الخطاب السياسي لدى الطبقة السياسية بوجه عام، تمثل في المواجهات اللفظية والانزلاق بالأسلوب السياسي إلى التخوين والعمالة، واختلاق معارك ذات طابع سوسيو ـ ثقافي مارسه بالخصوص حزب الأصالة والمعاصرة الذي صاغ خطابه السياسي ضد الإسلاميين بعيدا عن محاسبة البرامج وسياسة التدبير اليومي لمعاش الناس. وحاول اصطناع معارك فكرية لا لزوم لها في سياق استحقاق انتخابي يرتكز أساسا على الأرقام والمعطيات والبرامج، ما جعله خطابه الانتخابي خارج السياق.
تتمثل الخلاصة الرابعة في الإمكانية التي أتيحت لحزب العدالة والتنمية الإسلامي بسبب ضعف الإقبال على صناديق الاقتراع. فالحزب يتوفر على كتلة ناخبة شبه مستقرة، سواء في المدن أو الأرياف، تضمن له فوزا مريحا في كل استحقاق انتخابي، بحيث يمكن القول إن العزوف عن التصويت شكل جزءا من الروافد الانتخابية التي استند عليها الحزب في الحفاظ على موقعه؛ ويساهم توظيفه للخطاب الديني وتوظيفه لنزعة المظلومية السياسية أمام خصومه في دفع الناس إلى التعاطف معه، وهو ما استثمره بعناية طيلة ولايته الحكومية السابقة، واستطاع التركيز عليه خلال حملته الانتخابية.
يقابل هذه الصورة ضعف الأحزاب السياسية، خاصة منها التقليدية، في تأطير المواطنين والحضور المستمر وسط الناخبين؛ وقد أدّى ذلك خلال العقدين الماضيين إلى خسارة تلك الأحزاب للمعين الانتخابي الذي كانت تعتمد عليه، وهو ما وظفه حزب العدالة والتنمية لصالحه. بل إن هذا الأخير استطاع استقطاب جزء من الطبقة الوسطى التي كانت في الماضي رافدا انتخابيا بيد اليسار والاتجاه الليبرالي، على الرغم من الحصيلة الحكومية السلبية التي تضررت منها خلال السنوات الخمس الأخيرة.
الخلاصة الخامسة أن هذه الانتخابات كرست بشكل شبه نهائي هندسة سياسية جديدة في البلاد يهيمن عليها كل من حزب العدالة والتنمية من جهة والأصالة والمعاصرة من جهة ثانية، واللذين حصلا على المرتبتين الأولى والثانية على التوالي، وأنهت خمسة عقود من احتكار حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية للمشهد السياسي بالمغرب. فقد احتل الأول المرتبة الثالثة بفارق كبير جدا عن الحزب الذي احتل الرتبة الثانية، بـ31 مقعدا، بينما احتل الاتحاد الاشتراكي المرتبة السابعة بـ14 مقعدا فقط، ويعد هذا الأخير أكبر الخاسرين في هذه الانتخابات.
الخلاصة السادسة والأخيرة تتعلق بوضعية الانقسام التي بدأت تحصل داخل المجتمع نتيجة حالة التقاطب التي حصلت بين توجّهين رئيسيين في البلاد، التوجه الإسلامي أو المحافظ الذي يعبّر عنه حزب العدالة والتنمية، والتوجه الليبرالي الحداثي الذي يعكسه حزب الأصالة والمعاصرة. وهي وضعية دفعت ثلاثة أحزاب يسارية ـ كانت في السابق ترفض المشاركة في الانتخابات ـ إلى الاندماج في تنظيم موحد هو “فيدرالية اليسار الديمقراطي” وخوض الانتخابات تحت شعار الخط الثالث، لخلق نوع من التوازن، بيد أن ضعف تمثيلية هذه الأحزاب الثلاثة في المجتمع يجعل قدرتها على لعب دور التوازن شبه منعدمة.
وأعتقد بأن الطبقة السياسية ستخرج من هذه المحطة الانتخابية أكثر وعيا بضرورة وضع تشخيص للمرحلة السياسية وتجديد بناها وهياكلها وتطوير خطابها، ذلك أن الحديث عن الأزمة التي تتخبط فيها هذه الأحزاب لم يعد أسير الصالونات المغلقة بقدر ما أصبح خطابا منتشرا لدى عموم المواطنين والمراقبين والمثقفين.