المثقف الرث

Photo

حالة الانقسام الحاد في مواقف المثقفين العرب حيال الانتفاضات العربية، هي في حقيقتها انقسام سياسي وفكري، حول إرث تجربة سياسية عاشها العرب منذ ما ينيف على نصف قرن من الزمن، عجزت فيه النظم السياسية الحاكمة عن استكمال بناء مشروع الدولة الوطنية وتحقيق التنمية، ولذلك استخدمت الشعارات الكبيرة، وفي مقدمتها الوحدة العربية، للتعمية على فشلها في تحقيق هذه الأهداف، وعندما انكشفت هذه اللعبة، ضاعفت من مستوى القمع، بصورة سافرة، تعكس طبيعتها الاستبدادية.

إن الخلاف حول مشروعية هذه الانتفاضات، هو خلاف في حقيقته حول واقع هذه التجربة، التي أثبتت الانتفاضات أنها كانت عاجزة عن بناء مؤسسات الدولة الوطنية، وتكريس مبدأ المواطنة وسلطة القانون، وإلا لماذا انهارت هذه الدولة مع سقوط رموز استبدادها، ولماذا عجزت الحياة السياسية عن إنتاج بديل، قادر على قيادة مرحلة التغيير، وإعادة بناء دولة المواطنة والقانون، ولماذا استعانت هذه الأنظمة بالقوى الإقليمية الطائفية، والخارجية للدفاع عن وجودها، ورهنت بلادها لحساب هذه القوى الغازية؟

لقد جرى تغييب الجماهير التي هي أداة التغيير وهدفه لصالح القائد الرمز أو الحزب الطليعي، وجرى ومازال يجري تخوين الشعب عند أي انتفاضة على واقعها المتردي، حيث اختزلت في شخصية القائد المعاني القومية والوطنية، في مواجهة الشعب المتآمر الذي يسهل شراء ذممه، وتسخيره لخدمة مشاريع التآمر الخارجية، وكأن هذه الأنظمة بعد أن دمرت اقتصاد بلادها، وأفقدت المؤسسات التعليمية والثقافية والقضائية من مضمونها، وقضت على الحياة السياسية، وأنتجت الآلاف من جيوش العاطلين عن العمل، وخسرت ومازالت تخسر المزيد من الأرض العربية في حروبها الخاسرة، تحتاج لمن يتواطأ مع الاستعمار والصهيونية ضدها.

من هنا فإن الخلاف هو حول مشروعية هذه الانتفاضات ومطالبها في الحرية والعدالة والحياة الكريمة، هو خلاف بين مثقفي الحرية ومثقفي الاستبداد، حول مشروعية الاستبداد وسياساته ونتائج هذه السياسات الكارثية على المجتمع والحياة، إضافة إلى أنه موقف يعكس حقيقة المثقف الرث، الذي لم يستطع حتى الآن أن يتحرر من عقلية المؤامرة، ويعي الأسباب الموضوعية لهذا الانفجار الكبير، الذي تحاول نفس القوى الدولية التي تتهم جماهير الانتفاضات بالعمالة لها، الالتفاف على مطالبها مستعينة ببقايا الدولة العميقة، أو بإشعال الفتن والحروب الداخلية لاستنزاف هذه الانتفاضات وإفراغها من مضمونها.

إن هذا المثقف الرث الذي لم يستطع أن يعترف بالعجز عن الانفتاح على الواقع، من الطبيعي أن يكون حليفا لأنظمة القتل والاستبداد، وأن يظل وفيا لشعارات لم تبن وطنا ولم تحقق تقدما، أو تنجز هدفا واحدا سوى تأليه القائد وتقزيم الوطن.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات