عن تأبيد الهدنة وتبديد السلام

Photo

قد يكون مصطلح الهدنة ومفهوم التهدئة الأكثر انتشارا اليوم ضمن المعجمية السياسية الإقليمية والدولية للأطراف المتابعة للأوضاع المتردية والمأساوية في الجغرافيا العربية.

دعوة إلى الهدنة العسكرية في حلب وأخرى في اليمن وثالثة في ليبيا، وحضّ على “الهدنة الاجتماعية والسياسية” في تونس على خلفية الاحتقان الاقتصادي المتصاعد في البلاد، وتشديد على ضرورة إرساء “هدنة إعلامية” في لبنان إلى حين اعتلاء العماد ميشال عون كرسي الرئاسة في بعبدا بعد أن حكم “فخامة الفراغ” 3 سنوات كاملة أرض الأرز.

قد تكون عبارة “الهدنة” مؤشرا فعليا وجديا على وجود حكماء وعقلاء، تقدّم الطرق التوافقية والمسالك الميثاقية على سبل التطاحن السياسي والمكاسرة العسكرية، ولكنّها في المقابل دليل حقيقي على انغلاق الأزمة وانسداد آفاقها وانعدام الحلول الجذريّة.

تشير عبارة الهدنة إلى انخفاض سقف جهود إيجاد الحلول إلى مستوى التوقّف عن فعل الأذى ونطاق تبادل الكباش، منطلقة من مبدأ خطير قوامه أنّ الأصل كامن في المناجزة والمناكفة بشتى أنواعها، وأنّ الاستثناء متجسّد في التوصّل إلى الحلول التوافقية.

فأن تكون عبارة الهدنة شذرة من شذرات الخطاب السياسي العربي حيث يراد عبرها تهيئة الأجواء ونزع الاحتقان للجلوس إلى طاولة الحوار، تفضي بالضرورة إلى حلول جامعة مانعة، أمر مقبول ومنطقي أيضا، ولكن أن تصبح العبارة مصطلحا مركزيّا مسيطرا على الخطاب السياسي ومنسحبا على المشهدية العسكرية في ليبيا وسوريا واليمن والمشهدية السياسية المدنية في لبنان وتونس فذلك دليل على عمق الأزمة الضاربة لكافة الفضاء العربيّ بصفة عامّة.

المفارقة التي لا نجدها إلا في العالم العربي كامنة في تصيير الهدنة إلى هدف بحدّ ذاته تنعقد في سبيل تحقيقها المشاورات الماراثونية والجولات المكوكية بين العواصم الإقليمية الفاعلة وغير الفاعلة في بعض الأحيان، في حين أنّ الأصل متقرّر في أنّها نقطة إجماع كافة الأطراف الرامية إلى السلام والتائقة إلى تجنيب بلدانها ويلات الحرب والدمار والدماء.

المفارقة الأكثر إيلاما أنّه تقريبا لا توجد لهدنة متفق عليها نجحت في الاستمرار لأكثر من 72 ساعة سواء في ليبيا أو اليمن أو سوريا، حيث يقع نقضها من ذات الأطراف التي تعهدت باحترامها والالتزام بها.

وقد يكون الأشد غرابة من كل ما سبق أنّ الهدنة التي أصبحت هدفا بحدّ ذاتها، في حين أنها وسيلة لتحقّق السلام عسكريا وسياسيا وثقافيا إلى حين تجاوز ترسبات الماضي، تستحيل مناط تجزئة ومحور تقسيم، فتكون الدعوة إلى هدنة في حلب لا في كل سوريا، وفي صنعاء لا في اليمن برمته، وفي طرابلس لا في ليبيا وهكذا دواليك. وهو أمر منطقي في حال ربطه بانعدام الحلول وارتهان مواقف الأطراف المحلية بالفاعلين الإقليميين والدوليين.

الناظر اليوم إلى مدونة الخطاب السياسي للمبعوثين الدوليين في سوريا واليمن وليبيا يبصر مدى المركزية المفاهمية لمصطلح “الهدنة” في مقابل الإفلاس الاستراتيجي والدبلوماسي في اجتراح الحلول القادرة على إخراج تلك البلدان من نفق دوامة الدماء والدمار وتنقذ العباد من إغواء خطاب “الهدنة” المراوغ والمخاتل.

ومن طبيعة الأمور أن تصير الهدنة فرصة لاستجماع القوى العسكرية ولاسترداد الأنفس لخوض غمار جولات جديدة من الصراع، طالما أنّ منظومة الحلّ الجامع لا تقوم على ثنائية التهدئة من جانب، وطرح المبادرات السياسية الشجاعة والجذرية من جانب ثان.

في ليبيا كما في سوريا واليمن، ينتظر المبعوثون الدوليون الثلاثة، مارتن كوبلر وستيفان دي مستورا وإسماعيل ولد الشيخ النموذج الجزائري حيث أنهك الصراع الأطراف المتقاتلة ومهّد لتسوية شاملة في البلاد.

يستبطن المبعوثون الدوليون خطاب المتصارعين ويتمثلون المشاهد ضمن عسكرة البلاد والعباد، الأمر الذي يدعوهم لا فقط إلى ترداد مفهوم الهدنة الذي يفهمه الفاعل العسكري لا السياسي، وإنما أيضا إلى تحويل الهدنة إلى حلول ترقيعية إلى حين إنهاك المتصارعين لإنهاء الصراع.

والخوف كلّه أن لا يتقاطع المشهد الجزائري مع المشاهد العربية الأخرى بسبب كثرة التدخلات الأجنبية وندرة وقلة القرارات السيادية، فيجد العالم العربي نفسه حيال مأساة تأبيد خطاب الهدنة وتبديد السلام.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات