يظلّ الحديث عن الحرّيّة وتطبيقاتها الواقعيّة مركزيّا في الفلسفة والأدب والفنّ، ويتجدّد البحث عبر الزمن عن فكرة الروح الحرّة التي من شأنها الانطلاق في عوالم رحبة بعيدا عن قيود الواقع ودوائر محظوراته الكثيرة، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك من الذرائع التي تُشهَر في وجوه الباحثين عن عيش حرّيّتهم وتطبيقها في حياتهم وواقعهم وفكرهم وفنّهم وأدبهم.
هل يحتاج التفكير الحرّ إلى عالم حرّ؟ هل يمكن التحليق بحرّيّة في ظلّ قيود متراكمة عبر الزمن؟ هل يبدأ الأديب والفنّان في تحدّي الذات ومجالدتها في رسم ميادين الحرّيّة المفروضة؟
الفيلسوفة والمؤرّخة الأميركية من أصل ألمانيّ حنة آرندت (1906 – 1975) تشدد في كتابها “الوضع البشري” على أهمية التفكير الحرّ، ذاك الذي يكون مَعبرا إلى الإبداع، وكيف أنه يكون سبيلا للمحافظة على مستقبل العالم، ومستقبل الإنسان نفسه. وتقترح إعادة النظر في الوضع البشري من وجهة نظر تجارب الإنسان ومخاوفه الأكثر جدة. تنطلق من سؤال رئيس يكون المبحث المركزي لكتابها: ماذا نفعل؟ وتقول إنها لا تطرح فيه إلا التمفصلات الأكثر جزئية للوضع البشري والأنشطة التي تكون بطريقة تقليدية في متناول كل الكائنات البشرية. وتجد نتيجة لذلك أن النشاط الأرفع، وربما الأكثر صفاء، والذي يكون البشر قادرين عليه، أي نشاط التفكير، سيبقى خارج الاعتبارات الراهنة.
أمّا الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844 – 1900) في كتابه “شوبنهاور مربّيا” يؤكّد ما ركّز سابقه آرثر شوبنهاور (1788- 1860) عليه من البحث عن الحرية والحقيقة والسعادة في الحياة، وأنّ الفكرة الأساسية التي تحفظ للحياة توازنها وتماسكها هي الثقافة. ويجد ضرورة تحمّل كل فرد واجبا واحدا فقط، أن يعمل على إظهار الفيلسوف، الفنّان والقدّيس في داخله وحوله، ويعمل من خلال ذلك على اكتمال الطبيعة.
يوجب نيتشه البحث عن الروح الحرّة وعدم الالتفات إلى المصاعب التي توضع في الطريق، ويجد أنّ حياة الإنسان تكون بائسة ومجرّدة من أي معنى حين تخلو من الحرّيّة. كما يوجب على الإنسان أن يتحمّل المسؤولية عن وجوده ويدافع عنه تجاه نفسه، ولهذا لا بدّ للبشر أن يكونوا سادة حقيقيين في هذا الوجود وألّا يسمحوا لوجودهم أن يشبه مصادفة طائشة. ويؤكّد أن الإنسان مجبر على أن يعيش حياته في جرأة وخطر، وخاصة لأنّه سيفقدها في كل الأحوال.
لا يخفى أن التفكير الحرّ هو أحد الدروب الممهّدة لبلورة صورة من صور الحرّيّة المنشودة في الواقع، ولا تنحصر المسؤوليّة في أديب أو مفكّر أو فنّان، بل هي مسؤولية تاريخيّة تقع على عاتق كلّ امرئ يرنو إلى اختيار درب حياته المفضي إلى سلامه الداخليّ وصفائه الروحيّ وكماله الإنسانيّ، ومن هنا فإنّ الروح الحرّة تبقى حجر الأساس في عالم الإبداع.