لهجتنا التونسية التي قال عنها طه حسين إنها أقرب اللهجات إلى العربية، تحوّلت على مرّ السنين إلى خليطٍ هجينٍ من الفصحى والفرنسية والإنكليزية والإيطالية والمصرية فضلا عن الأمازيغية، شبيهٍ باللغة المالطية التي حَوت تقريبا كل لهجات شعوب حوض المتوسط.
صحيح أن قاموسها، كوسيلة للخطاب اليومي الدارج، اغتنى بكلمات كثيرة من سائر الشعوب الوافدة، لاجئة أم غازية، كما بيّن العلامة عثمان الكعّاك في كتابه “العادات والتقاليد التونسية”، ولكنها استطاعت أن تهضمها وتُتَونسها فيتداولها أهل البلاد في خطابهم وهم لا يعرفون في الغالب أن أصلها أجنبي، ولم تُبق من الألفاظ الدخيلة على حالها إلا ما دلّ منها على مستحدثات آلية مستوردة، إما لغياب البديل العربي، وإما لانحصاره في المجامع اللغوية.
ومع انتشار التعليم في فجر الاستقلال، تطعّمت العامية بألفاظ فصيحة،غير أنها أفرزت ظاهرة جديدة هي “الفرانكو آراب”، أي المزاوجة بين العربية والفرنسية كدليل من المتحدث على إتقانه لغة فولتير، فاستشرت عدواها في نسيج المجتمع، حتى باتت تجري على ألسنة حتى من ليس لهم حظ من علم، ولم تسلم منها إلا وسائل الإعلام المرئية والمسموعة التي كانت تحرص على ضرورة تجنّب المتدخلين استعمال اللغات الأجنبية أو تعريبها فورًا إذا لم تسعفهم العبارة.
ولكن الأمر استفحل بظهور القنوات الخاصة، ولا سيما بعد الثورة، فصار الخطاب صورة من فوضى لغة الشارع، يستوي في ذلك مقدم البرنامج والمحللون والضيوف، شيبا وشبابا، رجالا ونساء، وكأنهم عاجزون عن التعبير بلغة قومهم، أو أن العربية، وحتى العامية، لا تفي وحدها بالمراد. شفع ذلك أسلوب متبع في الإعلانات الإشهارية، يتوخى رسم العبارات الفرنسية، وقد غدت رائجة في الشارع التونسي، بأحرف عربية، فلا يفهم الرسالة إلا من تعوّد على تلك الأساليب المبتدعة.
فإذا أضفنا تراجع مستوى التعليم، وضحالة الزاد المعرفي لطلبة المدارس بشتى درجاتها، حقّ لنا أن نشكّ في وجود أطراف تغذي هذه الظاهرة لغاية ما، وقد عثرنا منذ يومين على مقالة في موقع هاتنغتون بوست الأميركية بعنوان “مانيفستو، تسقط العربية!” يدعو فيها كاتبها إلى فرض العامية التونسية، بكل العيوب التي ذكرناها، لغة رسمية، بدعوى أن العربية هي لغة الغزاة شأنها شأن الفرنسية، أي أن العربية في النهاية هي المستهدفة.
أليس غريبا أن يحتج مؤخرا أستاذ جامعي معروف، هو سمير المرزوقي، على خطأ يشوب تسجيلا صوتيًّا بالفرنسية موجّهًا إلى المسافرين في مطار قرطاج، ولا يندّد بالفظاعات التي تنتهك حرمة العربية يوميا في تونس؟