قد يكون من الاستغباء الفكري للشعوب اتهام احتجاجاتها الشرعية بالتنزل صلب سياق التآمر ضد الأمن الوطني للدولة والسعي إلى ضرب استقرارها الداخلي. لا فقط لأنّ حالة من قابلية الانتفاضة والغضب تسود المنطقة العربية حاليا بفرط استنفاد الصبر الجماعي للشعوب التي لا تزال تنتظر التكريس الفعلي لوعود الكرامة الاجتماعية والحرية والديمقراطية على أرض الواقع، وإنما أيضا لأنّ أيّ فعل تثوير من الداخل والخارج لا يؤتي أكله إلا إذا كانت “الجبهة الداخلية” منفرطة ومشتتة ومترهلة.
ذلك أنّ مناقشة الحقّ في الغضب والاحتجاج لا تستقيم في هذا السياق العربي وفي كافة السياقات الأخرى، غير أنّه من حق المتابعين والقارئين للمشهدية الإقليمية ولا سيما منها تلك المرتبطة بشمال أفريقيا أن يستقرؤوا جيّدا حالة الانتكاس الهوياتي في كلّ حركة احتجاجية ضدّ مؤسسات الدولة.
فأن ترفع الأعلام الأمازيغية وأعلام جمهورية الريف “الحمراء”، وأن توظف حالة الاحتقان الشعبي عقب مقتل المواطن المغربي محسن فكري لتحويل الصراع من استحقاق اجتماعي واقتصادي، إلى صراع مناطقي بين المدينة والريف ومكاسرة بين الهوية العربية والأمازيغية، فهذا أمر يستوجب منّا الكثير من الوقوف والتروي.
هناك اتجاه نحو تحويل مأساة الشاب فكري من معضلة اجتماعية شبابية داخل مؤسسات المملكة المغربية، إلى مسألة هوياتية إثنية بين الأمازيغ والعرب المغاربة خارج مؤسسات المملكة.
الخطير في الهويات الإثنية المناطقية القافزة على آلام المغاربة اليوم أنّها تجزّئ مبدأ المواطنة الجامعة وتضربها في الصميم، حيث يصبح الانتماء إلى الهوية الجزئية أهمّ وأولى من الانتماء إلى فضاء المواطنة صلب الدولة المغربية. وهو ما يمكن أن نسميه بشرخ المجتمعات المغاربية أفقيا وفق الهويات الإثنية، عندها يصبح الوطن فضاء للنفاق المجتمعي وللتعايش المؤقت بين الكنتوتات الإثنية والترضيات المالية، فيما يبقى الانخرام الإثني عميقا في بنية الاجتماع البشري، ينتظر أيّ فتيل للاشتعال ولإعلاء الرايات والشعارات الخارجة عن إطار وسقف المجتمع.
الأخطر من كل ما سبق كامن في ضرب ثقافة المواطنة بالمواطنة الثقافية المتمثلة في اللغة والرموز والإعلام الأمازيغي وهي أمور متحققة في المغرب بشكل متقدّم على كافة الأقطار المغاربية، ابتداء من المؤسسات الإعلامية المغربية الأمازيغية العمومية والخاصة، وليس انتهاء باعتماد اللغة الأمازيغية كلغة رسمية بجانب اللغة العربية.
وليس أخطر من استهداف ثقافة المواطنة القائمة على المساواة في الكرامة الاجتماعية وفي التعاقد المجتمعي بين الفرد من جهة، والدولة من جهة ثانية بـ“المواطنة الثقافية” كحقوق رمزية ولغوية لتجمعات بشرية من حقها ممارسة هذه الاستحقاقات جماعيا دون الخروج من إطار المواطنة الجامعة.
المفارقة الاستراتيجية التي تتنزّل في سياق ضرب “ثقافة المواطنة بالمواطنة الثقافية” أنّ أعلام الكيانات المناطقية والإثنية، المتخيلة والمتحيلة على التاريخ والجغرافيا، تُرفع في كافة الاحتجاجات الشعبية الشرعية الحاصلة في العالم العربي، من اليمن في 2011 مع العلم الجنوبي، إلى سوريا في 2012، مع العلم الكردي إلى ليبيا مع علم برقة، وفي الأمر إحياء لنعرات ما قبل الدولة الوطنية لدفعها نحو ما بعد الدولة الوطنية أي التقسيم أو الانقسام.
رفع هذه الأعلام والشعارات يعني في المحصلة الانتقال من مطلبية الإصلاح داخل الدولة، إلى مطلبية الخروج عن إطار الدولة أصلا، وصبغ الشعار الاجتماعي ببصمة الإثنية القلقة والهويات الثائرة على الهويات الأخرى بما فيها الهوية الرسمية للدولة.
ذلك أن الكيانات الهجينة تبنى على انعدام ثقافة المواطنة وعلى مصادرة المواطنة الثقافية.