في البدء كانت الكلمة وكانت معها اللغة أيضا بما هي أداة للتخيّل الرمزي والتعريف الجماعي وخيط ناظم للتماثل والتمايز الحضاريّ.
مسلكية السفارة الفرنسية في تونس حيال تصريحات وزير التربية والتعليم التونسي ناجي جلول، والتي أكّد خلالها عزم وزارته على تحويل الإنكليزية إلى اللغة الأجنبية الثانية عوضا عن الفرنسية، تشير -أي المسلكية- إلى تمثّل عميق لمفهوم القوّة الناعمة وللامتداد الرمزي للدول الإقليمية الكبرى في حدائقها الخلفيّة.
لم يدم تصريح ناجي جلول لإذاعة محلية -تدعى ديوان أف إم- أكثر من 24 ساعة حتّى دخلت باريس ومعها السفارة الفرنسية بالعاصمة التونسية صلب منظومة ما يمكن أن يسمّى بالاستفاقة الثقافية واللغوية حيال تغيير منتظر يضرب في الصميم الرأس المال الرمزي والاعتباريّ لباريس، وللصورة الذهنية العالقة في أذهان بما هي عاصمة للأفكار والأنوار معا، أو هكذا يصرّ أنصارها على الترداد.
تتعامل باريس مع مسألة اللغة الفرنسية كمسألة مصيرية وحيوية، لا فقط للتأسيس الجوهري والتأصيل الفعليّ للدولة الأمّة، وإنما كقاطرة وجودية لقوتها الناعمة ولامتداد نموذجها الحضاري ضمن المسار الإنسانيّ.
وكما يتأسس مفهوم الأمن القومي على الجغرافيا البعيدة وعلى الحدود النائية للفضاء السيادي، فإنّ الأمن القولي للدولة الأمة ينسحب على مجالات قصيّة يتداخل فيها الاستعمار الناعم بتاريخ الاحتلال، وتمتزج فيها الهجرات البشرية بالانهزام اللغوي.
تدرك باريس جيّدا أنّ أفول الدول الكبرى يبدأ من خروجها من دائرة التأثير السلس والناعم في تدفّق الأطروحات الفكرية والجمالية والفنية، وأن بداية انحسار الإمبراطوريات افتتح عصره منذ إسدال الستار عن قدرتها في صياغة “الأنمذجة” الإنسانية والأمثلة التمثيلية بشكل عجزت بمقتضاه القوى الدولية عن التوسّع في الأذهان والألسنة والوجدان قبل الميدان.
تتعامل باريس مع الدول التابعة لفضاء الفرانكفونية كجزء من التاريخ الأصيل لفرنسا الكبرى، وكتعبير ولو بسيط عن استمراريّة وتواصل هذا المجد معتبرة أنّ أي تخلّ عن اللغة الفرنسية، وبشكل آخر الثقافة الفرنسية، هو في المحصلة انتكاس واختلاس لجزء معتبر من الرأس المال الرمزي لباريس.
وطالما أنّ احتضار اللغة هو موت للرمز وللمخيال الجمعي، وهو أيضا اختلال قويّ في مبدأ ومفهوم “الدولة الأمة” القائمة على وحدة اللغة والجغرافيا والتاريخ والمصير، وطالما أنّ ضعف المبنى اللغوي يفضي إلى سقم المعنى والعجز عن المثاقفة والقصور في التفاعل الحضاري، فإنّ باريس تعاملت مع تصريح وزير التربية التونسي ناجي جلول بالكثير من العمق والاهتمام.
حيث كثفت السفارة الفرنسية في تونس من اتصالاتها مع الوزير، لتخرج بتصريح أشبه ما يكون بالقرار، وبقرار أشبه ما يكون بتسجيل الحضور الفرنسي في تونس.
أما التصريح الشبيه بالقرار فكامن في نقل السفير عن الوزير قوله بأنّ الفرنسية ستحافظ على مكانتها كلغة أجنبية أولى في المنظومة التعليمية والتربوية التونسية، في حين أنّ القرار المثيل والقرين بتثبيت “التوطين اللغوي” فكامن في البداية الفعلية في إنجاز إعدادية خاصة بالتدريس باللغة الفرنسية في محافظة صفاقس.
بعيدا عن الجانب السياسي المباشر وقريبا من الثقافي السياسي، تعاملت باريس مع تصريح وزير التربية والتكوين من منطلق الدولة الأمّة، حيث تكون اللغة هي أصل ومرجع كلّ مشروع وطني وكل منجز حضاري للتعصير والتطوير العمراني.
مثلها تقريبا مثل كافة الدول الأمم التي تقارب لغتها الوطنية كرافعة لمسارات نهوضها الفكري والمادي، كذلك كان الأمر مع ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية ولا يزال إلى يوم الناس هذا صائرا، كذلك أيضا مع اليابان في نفس الفترة تقريبا، ومع تركيا وإيران وبريطانيا وروسيا وحتّى الهند والصين.
الشاهد أنّ كافة هذه الدول حسمت “مسألتها اللغوية” ضمن حدودها سواء سلما أو بالقوة العسكرية، ولم تكن فرنسا خارج هذه المعادلة حيث رفضت -لا فقط- الدسترة والاعتراف والرسملة للغة الأقلياتية للبروتون والباسك، وإنما أيضا فرضت عليهم اللغة الفرنسية فرضا.
من حق تونس أن تفكّر اليوم في تغيير اللغة الأجنبية الأولى من الفرنسية إلى الإنكليزية التي باتت لغة العالم الأولى ومفتاح العلوم والوظيفة، لا سيما وأنّ شريحة معتبرة من الفرنسيين تخلوا عن استخدام لغة بودلير ضمن السياقات الأكاديمية والعلمية المحكمة.
ولكن من واجبها أن تدرك تمام الإدراك أنّ مشاريع الإصلاح والنهوض والتغيير تكون بتطوير منظومة استخدام اللغة الأمّ، وأنّ أي استنهاض تمّ بغير اللغة الأصيلة أفضى إلى تبعية العقل والانهزامية الحضارية والنفسية.
ذلك أنّ “تبيئة” العلوم والمعارف وفق مقدرات الترجمة ومقوّمات التفاعل والتثاقف تمثّل أصل الاستنهاض والإصلاح، وأنّ استبدال لسان “العم ميشال” بلسان “العم سام” قد يحسّن من التموقع ضمن موازين القوى الدولية، ولكنّه لن يخرجنا من سياق اليد الحضارية السفلى ولن ننعتق معه من التبعية اللسانية والثقافية.