البعض وفيهم سياسيون وإعلاميون وفنانون وجامعيون وغيرهم، كانت ردود أفعالهم على جلستي الاستماع عنيفة وركيكة ومثيرة للاشمئزاز والتقزز وحتى الغثيان. لا بأس فمهما قالوه أو صدر منهم قابل للاحتمال، وهو لا يعتبر شيئا بالمقارنة مع ما أتاه الجلادون، وإن كان من جنسه.
لا بأس فمن هم مستعدون للعفو عن الجلادين، رغم فظاعة وبشاعة ما تعرضوا له أيام الجمر واللظى، يكونون فطريّا أكثر استعدادا للعفو على من هم تحتهم من السبابين والنبارة وحتى عديمي الأحاسيس، يعفون حتى وإن لم يتقدم إليهم أحد بالاعتذار.
وإذ حصلت في هذا الجو، عودة الوعي على الأقل لدى بعضهم، وصدرت توضيحات أو تكذيبات لما نسب إليهم حقا أو باطلا، فهذا شيء جميل، يقيني أن آخرين غيرهم ندموا على تصريحاتهم، فقط الشجاعة ربما تخونهم. عودة الوعي تدل على أننا نسلك طريق الصواب، وأن مساحة تونس تتسع وتتسع، وهذا من الحقائق التي فرضت وتفرض نفسها، وإن بصعوبة، فمنحاها العام واضح وأكيد.
المساحة تتسع وكلما اتسعت اكتسبت المواطنة معناها الحقيقي لا ما كنا نقرأه في المدارس ونسمعه في الخطب الرنانة، بل واكتسب الوطن معناه، ولا معنى له إن كان بعض أهله يُصنّفون دون البشر ويعاملون كذلك. وبالتالي فما استمعنا إليه يعني أن الوطن الآن في طور البناء، والمفارقة أن ذلك يتم في غياب الحُكّام الذين قرروا أن يفوّتوا الفرصة على أنفسهم. مع الرثاء لهم.
اليوم ضحايا الانتهاكات يساعدون على البناء الجديد. كان لهم الفضل في تعرية الاستبداد، إذ استهدف كراماتهم ووجودهم وإنسانيتهم، وهم اليوم يوفّرون الفرصة لجلاّديهم حتى يطلبوا الاعتذار منهم. هكذا يتسع الوطن.
وهكذا تُبنى الأوطان حقيقة. خلاف ذلك فقد خبرناه ستين عاما وأزيد. ولا أقول ليس بالمقدور تحمّله أو حتى تحمّل جزء يسير منه، وإنما ليس بإمكانه الاستمرار. هذا مسار التاريخ.