التعذيب.. التعذيب سياسة دولة

Photo

كلما تم الكشف عن وفاة تحت التعذيب، في سنوات الجمر، كانت مختلف الأجهزة النوفمبرية تتستّر في البداية، بعد أن تكون قد ضغطت على أهالي الضحية حتى لا يتكلموا، بل حتى لا يحزنوا، ويدفنوا فقيدهم ليلا وفي صمت. وعندما تصل الحالة إلى الهيئات الحقوقية الدولية، وتراسل السلطة تتلكأ هذه في الرد؛ وتدلي بشهادة طبية لوفاة عادية مثلا؛ وقد تقول بأن القتيل قد فر قبل أن تدهسه سيارة مجهولة؛ وعندما تُجبر على الاعتراف تقول بأن الأمر كان مجرد تجاوز فردي، وأنه سوف يتم فتح تحقيق ويُعاقب المسؤولون. ولا شيء من ذلك تم، لأن الأمر ببساطة لم يكن مجرد تجاوزات وإنما كان ممنهجا، كان سياسة دولة.

وإن لم يكن كذلك فلماذا شكلت ما سمّته بالسلطة الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية ووضعت على رأسها الرشيد إدريس في حين كانت أمامها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان التي تُحظى بالمصداقية؟ ولماذا ضايقت الرابطة وهرسلت المدافعين عن حقوق الإنسان، أليس لتخويفهم بهدف إجبارهم على التزام الصمت إزاء مختلف الانتهاكات؟
إن لم يكن التعذيب ممنهجا، فلماذا لم يكن الموقوفون يُسجّلون بمجرد القبض عليهم؟ ألم يكن ذلك يهدف إلى تجاوز قانون الإيقاف التحفظي (4 أيام) وبالتالي الإبقاء على الموقوفين أطول فترة ممكنة قد تصل بضعة أشهر، وتعريضهم في الأثناء إلى مختلف أشكال التعذيب البدني والنفسي؟

إن لم يكن التعذيب ممنهجا، فهل كانت الصدفة هي التي تنتهي ببعض الأعوان إلى أن يصبحوا جلادين، أم أنهم يُختارون بعناية على أساس ما لديهم من مواصفات جسدية ونفسية؟ وهل كان عدد الوفيات تحت التعذيب يتجاوز الآحاد إلى العشرات وأكثر من ذلك بكثير بالنسبة لمن أصيبوا بالجنون والإعاقة البدنية والنفسية؟ إن لم يكن الأمر ممنهجا فهل كانت الوفيات تحت التعذيب تُسجل خلال الإيقاف بمراكز ومحلات أمنية مختلفة (العاصمة، نابل، سوسة، قابس) وفي سجون مختلفة (9 أفريل، الناظور، قابس، مرناق، بولاريجيا)؟ وإذ حدث ذلك، فلماذا كانت السلطة تتستر على الجلادين القتلة؟

إن لم تكن التعذيب ممنهجا، ويتجاوز المساجين إلى عائلاتهم، فلماذا كانت السلطة تنقل المساجين إلى سجون بعيدة عن محال سكنى عائلاتهم؟ وكيف كانت تمنع أبناءهم وأقاربهم من الشغل والحصول على منح دراسية وحتى من العلاج والإعانات الاجتماعية؟ وكيف اتفقت مختلف المراكز الأمنية من شمال البلاد إلى جنوبها، على إخضاع من كانوا يسمونهم بـ"المُسرّحين" على التوقيع اليومي لديها؟ ولماذا كانوا يمنعونهم من الشغل، ويضغطون على مشغليهم حتى يتخلوا عنهم؟ وكيف كانوا يمنعونهم من السفر وحتى من أوراق الهوية ومن إتمام دراستهم؟

نعم، كان التعذيب سياسة تمارسها الدولة في العهد النوفمبري، ولم يكن ليكون كذلك دون أن يكون تحت المسؤولية الشخصية لمن كان على رأس السلطة والمحيطين به ومختلف الأجهزة التي نظّرت ونفّذت وبرّرت وتستّرت. التعذيب جريمة دولة مارستها على مواطنيها الذين كانت تضعهم دون حالة المواطنة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات