جزء من الاهتمام الإعلامي والسياسيّ للانتخابات التمهيدية صلب حزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية في فرنسا يصبّ في خانة انتظار الوجه السياسي اليميني الذي سيواجه زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية في أبريل 2017.
ذلك أنّه ما كان متمثلا في الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2002 على أنّه انحراف خطير في الديمقراطية الفرنسية، حيث تقابل الرئيس الأسبق جاك شيراك مع قائد اليمين المتطرف جون ماري لوبان، بات اليوم فرضية سياسية مرجحة، وقد يتحوّل التسابق صلب اليمين على الكراسي التشريعية والبلدية، ناهيك عن قصر الإيليزيه، إلى قاعدة انتخابية خلال العقد القادم، في ظلّ الضعف الهيكلي الذي يمرّ به اليسار الفرنسي وقصور أداء الرئيس فرنسوا هولاند عن تحقيق التطلعات الاقتصادية والأمنية المنتظرة منه.
ليس فقط اليسار يعيش أزمة هيكلية حيث سيدخل السباق الرئاسي بمرشّح ضعيف، اختبره الفرنسيون في أكثر من ملفّ اجتماعيّ واقتصادي، بل أيضا اليمين الكلاسيكي الذي يعرف أزمة هوية سياسية بعد هبوب رياح الهويات المنغلقة في كامل أوروبا، بل ووصول مداها الشعبويّ إلى الولايات المتحدة.
ويعيش اليمين الفرنسي اليوم ممثلا في الاتحاد من أجل الحركة الشعبية أزمة جيل سياسيّ بأكمله، فلئن كان رعيل الثمانينات والتسعينات يعيش بالتراث الديغوليّ وبالخطّ الفكري والسياسي الاستقلالي عن الولايات المتحدة، فإنّ العشرية الأخيرة عرفت جيلا سياسيا جديدا متأثرا بالتراث “الشيراكيّ” في العلاقات الدولية وفي إدارة الشؤون المحلية ولا سيما موضوع الهجرة.
الأزمة داخل اليمين الكلاسيكي تجذّرت مع وصول نيكولا ساركوزي إلى رئاسة الحزب في مرحلة أولى، وكرسي الإيليزيه في مرحلة ثانية، حيث بات الاتحاد من أجل الحركة الشعبية تكتلا هجينا يستنسخ مقولات اليمين المتطرف في قضايا الهجرة والأمن والهويّة، الأمر الذي دفع بالقيادي الديغولي دومينيك دوفيلبان إلى دقّ ناقوس خطر استهداف مبادئ الجمهورية الفرنسية أكثر من مرة خلال اعتلاء ساركوزي لمقاليد باريس.
لم تدم ولاية ساركوزي سوى خمس سنوات عجاف، ويبدو أنّ السيناريو ذاته تقريبا سيعاد مع فرنسوا هولاند الذي وصل مصادفة إلى رئاسة الحزب الاشتراكي ورئاسة فرنسا عقب إقبال التاريخ السياسي الفرنسي بوجهه للاشتراكي “المغمور”. حيث أخرجت لعبة الفضائح الجنسية “الرجل الاشتراكي” القوي “دومينيك ستروس كان” من حلبة الصراع السياسي، وحالت التجربة الفاشلة في منافسة ساركوزي دون وصول سيغولين روايال إلى دفّة قيادة الحزب الاشتراكي.
في ظلّ الأزمة الاقتصادية والهوياتية العاصفة بفرنسا انتقل السؤال من هوية المتنافسين بين اليمين واليسار واليمين المتطرف، إلى سؤال من سينافس مارين لوبان في الاستحقاق الرئاسي، ومن هو الأقدر اليوم على تجنيب باريس ويلات سيناريو ترامب.
قد يكون فيون الخيار الأنسب للحزب ولكن ليس لفرنسا، ففيون الرجل الإداري والبيروقراطي الهادئ والليبرالي المتوازن قادر على إنقاذ الحزب من أزمة الهوية السياسية العابثة به منذ انبعاث اليمين المتطرّف، وترتيب البيت الداخلي للاتحاد من أجل الحركة الجمهورية ولا سيّما في ظل الحروب الداخلية، ولكنّه ليس بذلك السياسي القادر على تجنيد الفرنسيين، ولا سيّما من اليسار، وراءه في الاستحقاق الرئاسي خاصة وأنّ برنامجه الاقتصادي في موضوع التقاعد قد يتعارض مع مقاربات اليسار الفرنسي.
السياسيون نوعان؛ نوع يغلب عليه الميدان على الإدارة وأولئك قادرون على التعبئة وصياغة الرأي العامّ ورصّ الصفوف الوطنية، ونوع تغلب الإدارة في طبعه على المباشرة الميدانية فيضيع اسمه بين الملفات الشائكة والمسائل الحارقة.
فيون ينتمي إلى المسلكية الثانية من الأداء السياسي، ولئن كان من المنطقي أن يكون رئيس الوزراء بهذا الطبع، فإنّ وجوده في الرئاسة سيصعّب كثيرا من ولايته الرئاسية، ذلك أنّ اجتماع الإداريين بين الرئاسة والوزارة الأولى يخرج السلطة التنفيذية من دائرة الحركة والفعل، في حين أنّ وصول سياسي بارع إلى رئاسة الحكومة سيمثّل سحبا للبساط الإعلامي والسياسي من تحت أقدام الرئيس البارد.
لا نجانب الصواب إن اعتبرنا أنّ على اليسار واليمين التفكير في توحيد الأفكار والسياسات لا فقط لمواجهة مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة، بل أيضا في التحالف الثنائيّ لحكم فرنسا التي باتت يتهددها “أفيون” اليمين المتطرّف القادم على عجل من لندن وواشنطن.