أزعم دون تواضع كاذب أني واحد من كثيرين ممن يمكن أن يبدي عن معرفة و تجربة رأيا مسموعا في شؤون التربية و التعليم ببلادي سواء تعلق الأمر بالشأن النقابي فيه أو بما يتعلق بالنقاش حول مناهجه و مضامينه و مخرجاته . أنا خريج المدرسة التونسية و عامل فيها عشتُ داخلها مُربيا و ناشطا نقابيا و سياسيا في سياق صياغة قانوني 1991 و 2002 ما يسمح لي بادعاء معرفة الايجابي و السلبي في مسيرة المدرسة التونسية و القدرة على الاقتراح في شأن اصلاحها .
كتبتُ في الأمر التربوي مقالات عديدة و ساهمتُ في صياغة لوائح تربوية حزبية و نقابية في هذا الشأن تنظيرا و ممارسة . لكن بعد ثورة اختلط فيها القول في التربية بالسياسوية الضيقة و التجاذب الايديولوجي الدغمائي أشعر أن القول "الاستراتيجي " الرصين في المسالة التربوية قد غاب في خضم الضجيج و المزايدات وهو ما دفعني أحيانا الى ملازمة الصمت .
تجدد التجاذبات في الساحة التربوية التي اكتشف فيها الجميع و الهياكل النقابية خصوصا حجم الخديعة تسمح لي بالقول الآن أن مجريات ما سُمي بالحوار الوطني الذي رعته وزارة التربية في السنوات الأخيرة بمساهمة الاتحاد و المعهد العربي لحقوق الانسان و شبكة عهد و الذي يتم التمهيد لإعلان مخرجاته في القانون التوجيهي الجديد سيكون مرة أخرى حوارا شكليا غير تعددي منحازا الى رؤية أحادية قامت على المغالبة و التسويات المغشوشة مما سيفوت مرة أخرى على البلاد انجاز انتقالها التربوي الحقيقي المستجيب لتطلعات عصر ثوري كشف علل الخيارات الكبرى لدولة الحكم الفردي و الرأي الواحد .
ان المسألة التربوية تتنزل في سياق الخيارات الوطنية الاستراتيجية الكبرى المتعلقة ببناء الانسان التونسي وتقرير مصير البلاد للدخول بثقة في عصر المعرفة و القوة و الاستقلال الثقافي و العلمي ما يعني أن كل حوار حولها يجب أن يكون فعلا حوارا "وطنيا" و جدلا عميقا بين الرؤى و التصورات المعبرة حقا على التعدد و التنوع الذي يعتمل داخل مجتمع متحول في قلب عالم صاخب.
لا سبيل لامتلاك مكانة فعلية داخل هذا العالم الجديد إلا بمدرسة وطنية يساهم الجميع في صياغة مفردات هويتها و ملامحها .دون ذلك سيظل قطاع التربية يراوح في الازمة و التجاذبات و صراع القوى و الترضيات "الايديولوجية "المشبوهة دون اجماع وطني فعال يؤسس لمدرسة عمومية قوية فعالة تكون حقا مجالا وطنيا مشتركا للاستثمار في انسان مغروس كشجرة طيبة في تربته الخصوصية حتى يضيء و يقتبس من زيت الكونية و العالمية المفتوحة على العصر .
تقديري أن كل ما نسمعه و نراه من كل المتدخلين في الشأن التربوي التونسي مازال لم يرق بعد الى مستوى الاحساس بالمسؤولية لتحقيق هذا الطموح و الله أعلم .