بعد وفاة أمي تزوج أبي من امرأة أخرى، أخبرتني أختي الكبرى أن أمي أوصته بذلك ومنحته موافقتها قبل أن تتوفى بسبب مرض القلب. كان جيلا مختلفا، الحب بالنسبة إليه، يتجاوز الحياة لما وراءها، حبا خالصا غير مشروط بالأنانية والتملك.
أصبت بعد زواج والدي بما يشبه الرهبة والخوف من العودة إلى بيتنا في تونس، ظللت 4 سنوات كاملة لا أجرؤ على القيام بهذه الخطوة خشية أن التقي المرأة الجديدة، وبالأخص بعد أن سمعت من إخوتي أنها غيرت كل ما في البيت وتخلت عن الكثير من الأشياء التي كانت لأمي، ولم أكن أتخيل أن أدخل غرفة نوم أمي فلا أجد فيها سريرها، أو خزانتها أو رائحتها او أشياءها التي رافقتها عمرا بأكمله.
كلما اشتد بي الشوق للأهل والأخوة، وتملكني هاجس العودة، أرسل لأبي، أطلب منه أن يدع زوجته الجديدة تغادر إلى بيت أهلها إلى حين أن تنتهي زيارتي، فيرفض. أربع سنوات كاملة، أنا أطلب وهو يرفض، ويقول لأختي “أبلغيها أننا نشتاق إليها كثيرا وننتظرها بفارغ الصبر، لكن لا أحد سيغادر من أجل أحد، هذا بيتك وبيتها وهو يتسع للجميع”. شعرت وقتها بغضب من والدي، وقاطعته لفترة، وكانت زوجته تبلغ إخوتي أنه يحلم بي كثيرا وقلبه يتمزق لأجلي، ولم أكن أصدق.
في النهاية عدت، ويومها أقام والدي رحمه الله ما يشبه العرس الصغير لأجلي، ذبح خرفانا ودعا العائلة وتكفل بختان ابني البكر وكان يتمدد جنبي ويضع ابني على بطنه يلاعبه ويعلمه كلمات عربية. رغم ذلك بقي داخلي نوع من المرارة بسبب معاندته لي وعدم استجابته لرغبتي سنوات طويلة، وظل هو يشعر بأنه قسا علي أكثر مما يجب ويقربني منه في ما بقي من عمره، حتى أنه وهبني قطعة أرض صغيرة تصلح مسكنا بالقرب من منزله دونا عن باقي أبنائه.
لاحقا فهمت أن والدي كان يريد أن يجنبني ألما أقسى وأعنف، يرافقني مدى الحياة، بإصراره على وضعي أمام الأمر الواقع الذي لم يكن هناك بد من قبوله، فلا أعيش في وهم كاذب أو حسرة أو خداع مؤلم للنفس، ولا يعيش هو في تعاسة بسبب رفض الأبناء لحياته الجديدة ومقاومتهم لها بكل الأساليب والحيل. قبلتُ زوجته بل وصادقتها أيضا وشعرت تجاهها، في النهاية، بامتنان لأنها أحبته وأخلصت له واعتنت به في مرضه وشيخوخته. وربما فعلت ذلك اعترافا له بما بذله من جهد لحفظ مكانتها وجعل الجميع يحترمها ويراعي وجودها، حتى وإن كلفه ذلك فراقا وألما مع أحد أبنائه، كان يعرف أنه لن يدوم طويلا.
في رقدته الأخيرة، عندما أخرجوه من غرفة العمليات سأل أول ما غادره البنج، إن كنتُ قد جئت، وعندما أبلغوه، بعد أيام أنني وصلت، نطق بالشهادة، ولم يكن قبلها قد نطق بحرف واحد لأيام طويلة. ظل، رحمه الله، ينتظر عودتي دائما بنفس الألم الذي رافقه في المرة الأولى، وكان كل غياب بيننا يحمل معه نفس حالة الترقب والشوق والانتظار التي مر بها خلال تلك التجربة القاسية، أو الدرس الذي تعلم منه كلانا الكثير.
توفي أبي منذ أيام قليلة، ومن أجله، من أجل ما تركه داخلي من حكمة وما علمني إياه من ضرورة مواجهة الواقع وتقبله، من أجل القسوة التي لا بد منها أحيانا لتستقيم الأمور، قبلت موته أخيرا، وعدت إلى قلب الحياة.