ما كان لروسيا أن تقاتل في سوريا إلى ما لا نهاية له، فالحرب بالنسبة لجميع الأطراف تعني خسائر متواصلة، فوق الخسائر البشرية في صفوف المدنيين، روسيا تدفع مع كل طلعة أموالا لن تستخلصها أبدا، حتى وإن تحقق النصر كما يتصوره بشار. إلا أن موقفها لا يمكن أن يتغير دون تعلات أو مرتكزات وإلا اعتبر هزيمة أو ما يشبهها.
ومن هنا كان لابد من تحقيق انتصار ميداني، لا لبس فيه، بما يفتح نحو مرحلة جديدة. ومن أجل ذلك أرسلت موسكو حاملة الطائرات كوزنيتسوف إلى البحر المتوسط، حيث كان من الواضح أن قاعدة حميحيم لا توفي بالغرض، ثم جاء القصف المتواصل لحلب الشرقية حتى جاء النصر وخرج المقاتلون من حلب الشرقية وأفرغت من سكانها. إلا أن تلك اللحظة حملت اختلافا بين بشار وإيران من جهة، وروسيا من جهة أخرى.
فبالنسبة إلى الشق الأول اعتبر أن "تحرير حلب نقطة مفصلية ستغير وجه المعركة في سوريا وموازين القوى إقليميا ودوليا". وهو ما يعني ضرورة استثماره عسكريا باتجاه بقية المناطق التي توجد خارج سيطرة النظام.
أما روسيا، فيبدو أن موقفها بدأ يختلف منذ كانت تتفاوض على خروج المقاتلين من حلب، إذ استمر التفاوض مع المعارضة السورية التي لم تعد تنعت بالإرهابيين، من أجل الوصول إلى وقف شامل لإطلاق النار، والأهم في هذا الإطار بروز تركيا كطرف فاعل وضامن للتهدئة إلى جانب روسيا. والواضح أن هذا التمشي تم رغم إيران التي حضرت إلى موسكو ولم تحضر بعد ذلك في أنقرة.
روسيا التي كان دورها حاسما في معركة حلب، تدرك جيدا ميزان القوى ميدانيا، بما في ذلك الوزن الحقيقي للجيش العربي السوري وللميلشيات المساندة له وحتى لإيران، وهو ما يجعلها تتصرف كالسيد المطلق، الآمر الناهي، والدليل أنها لم تدع بشار إلى موسكو في الاجتماع الثلاثي للنظر في مستقبل سوريا. وربما تكون قد منعته من الذهاب إلى حلب للاحتفال بالنصر، وفي الأثناء قدمت نفسها -دون استشارته- ضامنا للهدنة وانتظرت منه الالتزام بها.
التحرك الروسي أزعج بشار وإيران في نفس الوقت، فحمي خط الطيران الدبلوماسي بين طهران ودمشق، وتمت مشاورات على أعلى مستوى أسفر عنها -كما هو واضح- عدم احترام الهدنة على أكثر من جبهة. والأكيد هنا أنهم تجاهلوا الموقف الروسي، ودخلت في اعتبارهم تصريحات ترامب حول محاربة الإرهاب، وما يستتبعها من انتظارات في تغيير السياسة الأمريكية في المنطقة.
وعلى أية حال فإن استمرار الخروقات سيؤدي إلى المساس من وزن الروس، حتى وإن كانوا يعطون الفرصة لبشار وداعميه الإيرانيين ليجربوا حظهم ميدانيا، إلى أن يتحققوا في آخر المطاف إن كان بإمكانهم أن يستمروا في القتال وتحقيق نصر شبيه بما وقع في حلب بدون الطيران الروسي. وحتى يستشعر بشار ذلك جاء قرر الروس تقليص قوتهم العسكرية في سوريا. من الآن فصاعدا الأولوية للاستثمار السياسي وراءهم حلب وأمامهم أستانة.