تودوروف رجل الاعتدال

Photo

بدأ اهتمامي بتودوروف في أواسط الثمانينات مع كتابه “نقد النقد” الذي ودّع فيه شبابه البنيوي، لينطلق في تاريخ الأفكار، لا سيما فكر الأنوار من خلال أعلامه الكبار أمثال روسو وفولتير وديدرو، وكذلك عبر أسلافهم البارزين كمونتاني والبارون دو لاهونتان، قبل أن يمر إلى فيكتور سيغالين وكلود ليفي ستراوس ليتأمل بروز صورة المتوحش الطيب، التي مثلت اللحظة المؤسسة للأنسنة الغربية. لم يكن تودوروف من أولئك الذين يتمسكون بتخصصهم الأكاديمي، ويقنعون به، فمن النظرية الشعرية إلى النقد السياسي لعصره ومديح المتمردين الرافضين الخضوع، ما انفك يبسط فكرا عميقا إنسانيا في جوهره، بوأه مكانة مرموقة على الصعيد الدولي.

فبعد أن ترجم الشكلانيين الروس، وجدد تحليل الحكي بالاستفادة من السيميائية وعلم العلامات والدلالة، ووضع في “مقدمة الأدب الفنتازي” أصول نظرية في الجنس الأدبي من خلال تقسيم ما فوق الطبيعي إلى ثلاثة أجزاء هي الفنتازي والعجيب والغريب، وساهم مع جيرار جينيت في تأسيس مجلة “شعرية”، هجر منذ مطلع الثمانينات أشكال الكتابة وأجناس الخطاب والتنظير لها، وفتح طريقا جديدة تقع بين التاريخ الأدبي والفلسفة والأنتربولوجيا، فركّز على الأنسنة وتاريخ الأفكار ونقد الحياة السياسية الراهنة، كما في كتبه الأخيرة “الخوف من البرابرة”، و”التجربة التوتاليتارية: التوقيع البشري”، و”أعداء الديمقراطية الحميمون”.

وقد شكّل تخليه المفاجئ عن اللسانيات لغزا، فسّره بعض النقاد بسيرة تودوروف نفسها، فهو بلغاري النشأة، شهد في شبابه سطوة الشمولية الشيوعية التي تسحق الفرد بلا رحمة، واحتفظ، بعد الهجرة إلى فرنسا والاستقرار فيها منذ العام 1963، باهتمامه باللسانيات وعلوم اللغة والبنيوية كإرث من تربيته البلغارية، فقد كان التأكيد على الجانب العلمي لدراسة الآداب وتقنيات اللغة وسيلة لتجنب الظنون الأيديولوجية التي كان يُقذف بها المثقفون زمن هيمنة الاتحاد السوفييتي، وزاد عليها أن اهتم بالشكلانيين الروس، عسى أن يوهم الطغمة الشيوعية الحاكمة بأنه من الأوفياء للمشروع الاشتراكي.

وظل على وفائه للبنيوية واللسانيات حتى صدور “أرخبيل الغولاغ” سنة 1974، الرواية التي استند فيها ألكسندر سولجينتسين إلى تجربته الخاصة، وإلى شهاداتِ أكثر من مئتين وخمسين سجينا لتصوير القمع الذي كان يمارس ضد الشعب الروسي منذ اندلاع الثورة البلشفية حتى نهاية المرحلة الستالينية. هذا العمل حرر تودوروف نهائيا من الهيمنة الشيوعية على الفكر، ليوجه اهتمامه إلى ما يسميه الفحوى، وإلى مقاربة الفن مقاربة أخلاقية تقريبا، ومؤسِّسة.

وخلافا للألباني إسماعيل قدري الذي كان من مبجَّلي نظام أنور خوجة، ولما سقط سلَقه بألسنة حِداد من منفاه الفرنسي، لم يدّع تودوروف تعرضه لقمع أو ملاحقة في بلاده بلغاريا، بل كان يتحدث عن سطوة الشيوعية، وموانعها الدائمة التي تسلطها على الحياة والفكر، ما ولّد لديه ارتيابا من كل أشكال اليوتوبيا الثورية، وافتتانا بالغرب، وهوسا به دفعه إلى تأييد الحرب الأميركية على فيتنام. وهو ما لم يغفره لنفسه، حتى بعد تنديده بالعدوان الأميركي على العراق ووقوفه ضد دعاة حقّ التدخل، الذي قال عنه “هو مفهوم خطير يمكن استعماله لتبرير أي عدوان، مثل مفهوم ‘حضارة’ زمن الحروب الكولونيالية. أنا أدافع عن واجب المساعدة، الذي يجد جذوره في تاريخ السامريّ الصالح”.

قالت عنه الكاتبة والصحافية كاترين بورتفان، التي حاورته طويلا “كان رجل اعتدال. حاول أن يعطي فكرة الاعتدال قوة، وهذا صعب”. كان يقول “لنحذر تطرف الجانبين، ولا نخجل من أن نختار طريقا وسطى”.

وبرغم الظروف المشحونة بالخوف من العنف والكساد الاقتصادي والتلوث البيئي، ظل تودوروف متفائلا حتى وهو في خريف العمر، ولم يغادرنا إلا بعد أن انتهى من صياغة كتاب سوف يصدر الشهر القادم يبشر عنوانه “انتصار الفنان” بغد أفضل.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات