نقف اليوم في تونس الجريحة بعد سنوات مرت على الثورة المعطاء و التي غيرت الوجوه و عجزت عن تغيير المضامين . نقف مدهوشين امام التراجع اللامسبوق في عديد المجالات و تدهور صحة العديد من المؤسسات العمومية و على رأسها قطاع التعليم.
ربما نجح ناجي جلول في تسليط الضوء و توجيه بوصلة الاعلام و الفكر الجماعي نحو التعليم الابتدائي و الاساسي اكثر من نجاحه في منظومة الاصلاح التربوي التي لطالما كانت غير مدروسة و غير منظمة في رؤية واضحة و شاملة. و لكن ما يحسب له ان المدرسة اصبحت موضوع حديث الكثيرين سواءا لنجاحاته او لتجاربه الفاشلة و ان كنت ممن يرجحون فشله.
و لكن في الضفة الاخرى التي هي استمرار للتعليم الثانوي نجد ضوءا خافتا لا يكاد يرى النور فقليلون من يتحدثون عن اصلاح التعليم العالي و قليلون من يحدثون ضجة في هذا الموضوع. نتطرق في ما يلي الى موضوع خاص يهم قطاع الهندسة و بالأخص المدرسة التونسية للتقنيات. هذا الصرح المجيد و الذي يضم خيرة شباب تونس في المجال العلمي يقبع اليوم في ظل النسيان و الانتهاكات.
لمن لا يعرف هذه المدرسة فهي مدرسة عمومية لتكوين المهندسين ينضم اليها سنويا خيرة طلبة المدارس التحضيرية من كامل تراب الجمهورية. هذا الصرح الذي كان هدف انشائه هو تكوين اطارات قادرة على القيادة و الريادة في معظم المؤسسات العمومية من اجل التطوير و تقديم الاضافة المبينة على اسس علمية اصبح اليوم يرزح تحت قيادة مجموعة لا تملك من الكفاءة ما يخول لها قيادة المدرسة الاولى للمهندسين في تونس.
و هذا السبب كان كافيا لتعقيد الوضعية و ازدياد الامور سوءا و من ثم لم يكن منهم كحل سوى التنصل من مسؤولياتهم و تقديم استقالاتهم و لكن كالعادة المتضرر الاول من هذه التصرفات و من هذه الفئة هو الطالب بالدرجة الاولى. الوضعية اليوم تزداد سوءا في غياب تام للدولة و تنصل المسؤولين من مسؤولياتهم. و لكن هذه الوضعية المأساوية ليست وليدة خيارات لأفراد منعزلين و لكنها يمكن ان توضع في اطار السياسة الممنهجة الساعية الى تغليب كفة التعليم الخاص في مجال الهندسة.
و ما يميز المدارس الخاصة لتكوين المهندسين و اتحدث هنا عن اغلبية المدارس ان الكفاءة ليست المعيار المحدد لاستحقاق المترشح للانضمام الى مجال الهندسة و انما المعيار الاساسي هو قدرته على دفع تكاليف الترسيم. و هنا نلج موضوعا اخر هام و هو موضوع العدالة الاجتماعية و طرق تحقيقها في مجتمع لم تترك له السياسات المتعاقبة سوى الفكر كوسيلة لتحقيق الذات و اكتساب المكانة الاجتماعية.
المتعارف عليه في المجتمع التونسي هو استثماره في التعليم ايمانا منه بان التعليم هو الوسيلة القادرة على تحسين الظروف الاجتماعية و تحقيق اسباب العيش الكريم. و ها نحن اليوم بعد تعاقب السنين اثر الثورة نجد انفسنا نسبح ضد التيار الاصلاحي و نساهم في تعميق الهوة الطبقية التي قامت الثورة عليها من اجل طمسها. يبقى الكثير من الحديث في هذا الموضوع و لكن لعدم الاطالة تقول ما يلي : الثورة الحقيقية و التي ترقى بالامم هي الثورة العلمية التي تولي العلم مكانة اساسية في مخططاتها و برامجها و ميزانياتها.
و لذلك لا بد لمن يدافع عن الحريات و الديمقراطية ان يدافع بنفس الشراسة عن المؤسسات التربوية و خاصة منها تلك التي تستقطب خيرة الكفاءات التونسية.