وزير تربية يحطّ من قدر الأستاذ ويحرّض عليه لا يصلح أن يكون وزيرا

Photo

عندما يضرب أساتذة التّعليم الثّانوي لأجل مطالب ماديّة يعاب عليهم أنّ مطالبهم ماديّة بحتة. وعندما يضربون لغير ذلك، يعاب عليهم أنّ مطالبهم ليست حتّى مادّيّة. شخصيّا لا أوافق اليعقوبي في منهجه ولا يروق لي كثيرا شخصه، ولكنّ تذمّرات الكثيرين من الأساتذة لا يمكن اختزالها في موقفنا من شخص اليعقوبي، اللّهمّ إذا اعتقد البعض أنّ الأساتذة قطيع من القصّر يفعل به اليعقوبي ما يشاء.

لست ممّن له دراية كبيرة بما يدور داخل المعاهد و أروقة وزارة التّربية، و كنت مساندا للسّيّد ناجي جلّول رغم أخطائه، متعلّلا في ذلك بأنّ الرّجل مهما أخطأ فقد حرّك على الأقلّ مياها آسنة راكدة كان لا بدّ أن تُحرّك، وبقيتُ على ذلك الموقف طويلا، إلى أن قرّرت أن أتعرّف على المسألة عن قرب، فجالست بعض الأساتذة و الإداريّين ممّن لا أشكّ لحظة في كفاءتهم و نزاهتهم وموضوعيّتهم، فوجدت أنّ المسألة أكبر ممّا يروّجه الإعلام المساند بفجاجة و جهل للسّيّد جلّول، وأنّ تفاصيل تطبيق إصلاح النّاجي جلّول فيه من الخور و التّعنّت و الارتجال ما يبرّر امتعاض الأساتذة.

والتّفاصيل هي التّي لا يدركها الجمهور، وهي مربط الفرس، وهي التّي لا يريد أن يقف عندها الكثيرون، رغم أنّه في مقدور أيّ كان ممّن يدّعي الإهتمام بالمدرسة وشأنها أن يجلس إلى بعض الأساتذة المعارضين للوزير ويسمع آراءهم في المسألة ويكوّن لنفسه رأيا إن لم يكن مساندا لمطلب إقالة الوزير فإنّه سيكون على الأقلّ على نفس المسافة من الجميع وآخذا في الحسبان تفاصيل لم يكن ليراها لولا مجالسته أهل الشّأن. هذا أضعف الإيمان لمن يدّعي اهتماما بالشّأن المدرسي، عوض النّعيق مع النّاعقين وترديد سخافات تختزل المسألة بكلّ تعقيداتها في مواجهة بين وزير خدوم همّه الإصلاح وأساتذة متكاسلين يرفضون الإصلاح.

الأساتذة ليسوا ضدّ الإصلاح، بل هم طرف فيه. المشكل في هذا الشّأن أن الإصلاح تنكبّ عليه منذ سنة لجان مختصّة وأنّ السّيّد الوزير يقتطع في كلّ مرّة من برنامج الإصلاح هذا نماذج يطبّقها خارج الإطار الكلّيّ الذّي لا تنسجم ولا يكون لها معنى إلاّ فيه، ممّا يسبّب ارتجالا وفوضى على مستوى التّطبيق من الطّبيعيّ أن تثير الامتعاض من جانب الإدارة والأساتذة. من ذلك مثلا قرار الوزير إجراء فرض تأليفي موحّد على مستوى وطنيّ داخل ساعات الدّرس (ممّا يقتضي أن يكون كلّ أساتذة الرّياضيّات في كلّ معاهد البلاد مثلا يدرّسون السّنة الثّالثة علوم من العاشرة إلى الثّانية عشرة!!!) قبل أن يتراجع عنه كبقيّة القرارات لتّي اتّخذها وتراجع عنها، ليس لأنّها لا تصلح في المطلق، بل لأنّها تنسجم إلاّ داخل المنظومة التّي تعدّها لجان الإصلاح حاليّا ولا تنسجم داخل المنظومة الحاليّة. وهذا مجرّد مثال بسيط عن الارتجال والفوضى والبلبلة التّي يحدثها الوزير بقراراته العنجهيّة وغير المدروسة من وقت لآخر، ممّا يوحي للأساتذة بأنّ من يتّخذون مثل هذه لقرارات داخل الوزارة لا علم لهم ولا دراية بتفاصيل سير الدّروس داخل المؤسّسات. (ولمن أراد التّعرّف على مزيد من هذه التّفاصيل عليه الجلوس إلى بعض الأساتذة والإستماع إليهم، كما قلت، ولا أحد منّا لا يعرف في محيطه أساتذة نزهاء وأكفّاء).

أمّا لماذا يستبق الوزير قرارات لجان الإصلاح، فالأمر بيّن: الإصلاح مجهود جماعيّ تنكبّ عليه لجان، النّقابة طرف فيها، والوزير يريد أن يظهر للرّأي العام في ثوب الفارس المغوار الذّي يأخذ على عاتقه مواجهة جيش من الرّداءة (كم من النّاس يعلمون أنّ هناك الآن لجان مختصّة تعمل على تحضير برنامج متكامل للإصلاح نقابة الأساتذة طرف فيه، ممّا يعني أنّها ليست ضدّ الإصلاح كما يدّعي البعض من السّطحيّين الذّين يختزلون المسالة في معارضة أساتذة متواكلين لوزير وضع حدّا للغيابات!).

البلبلة التّي تثيرها قرارات السّيّد جلّول تبقى رغم ذلك من تفاصيل الإصلاح، والوقوف عليها لا يقتضي بالضّرورة المطالبة بإقالته. هي في أقصى حدّ تبيّن لمن هو خارج سلك التّعليم تعقيد المسألة وتدعو إلى الوقوف على نفس المسافة من الجميع والإمتناع عن مساندة هذا الطّرف أو ذاك فضلا عن سبّ هذا أو ذاك. أمّا مربط الفرس في طلب النّقابة إقالة الوزير فهو تحوّل المسألة من تجاذب حول الإصلاح إلى تجاذب بين شخص الوزير والنّقابيّين. ولمن لا يروق له شخصنة المسألة عليه أن يتذكر أنّ الوزير هو من بدأ بالشّخصنة، وليس أكبر دليل على ذلك من تقديم الإصلاح على أنّه مجهود شخصيّ يعارضه الأساتذة، والحال أنّه رغم أنّ الوزير هو من قام بالمبادرة (مبادرة يطالب بها الأساتذة منذ سنوات لمن كان ضعيف الذّاكرة) وذلك ممّا يحسب له و يشكر عليه، إلاّ أنّ المجهود جماعيّ، و ذلك ما تغيّبه عنتريّات السّيّد جلّول الذّي يبدو أنّه لم يدرك أنّنا الآن في تونس، بعد ما فتحته الثّورة من آفاق للإصلاح، في أمسّ الحاجة إلى الخروج من ثقافة الفرد المنقذ إلى ثقافة المؤسّسة الدّيمقراطيّة الرّاعية للإصلاح المتواصل عن طريق التّشارك -- و ليس ذلك ممّا يثير الإستغراب عندما يصدر من شخص يعبّر عن موقفه ممّا يمزّق حزبه من تجاذبات ايديولوجيّة و أخلاقيّة و سياسيّة بعبارة: "أنا مع مولى الباتيندا" وكأنّ الصّراع حول محلّ بقالة و ليس حول رؤى و ثقافة و أشخاص يمكن أن يتّجهوا بالبلاد في هذا الاتّجاه أو ذاك.

المطالبة بإقالة الوزير أخذت بعدا سياسيا وشخصيا، ولكنّ ذلك لا ينفي عمق المأزق الذّي وضع فيه الوزير نفسه، والذّي هو مربط الفرس في مسألة طلب الإقالة (مسألة تفاصيل الإصلاح لا تفضي ضرورة إلى طلب الإقالة): الإحتقار الممنهج الذّي يبديه الوزير لرجال التّعليم منذ تولّى الوزارة. شخصيّا سمعته في بعض المناسبات (وكيف يمكن لأيّ كان في هذا البلد ألاّ يسمع الوزير وهو لا يكاد يغيب عن منابر الإعلام؟!) يتحدّث عن الأساتذه، فلا يتحدّث عنهم إلاّ بضمير الغائب ولتشويه السّلك واختزاله في الفاسدين منه وكأنّهم الأغلبيّة. وتحريض العامّة عليهم. حتّى السّياق الذّي سمعته يقترح فيه إنشاء جمعيّات أولياء التّلاميذ كان سياق تحريض على الأساتذة وتقديمهم في صورة من يجب على الأولياء حماية أبناءهم (والوزير معهم طبعا) منهم ومن مكرهم، والحال أن اقتراح إنشاء جمعيّات للأولياء مقترح محمود وضروريّ في المطلق، قبيح ولاأخلاقيّ في السّياق الذّي جاء فيه.

هذا هو الفعل الشّنيع الذّي أتاه السّيّد جلّول والذّي لا يغفر له مهما كانت إصلاحاته، وهذا ما تدركه النّقابة وهي على حقّ في ذلك، مهما كان موقفنا من لسعد اليعقوبي أو غيره. وعلى الأساتذة الذّين يساندون ناجي جلّول اليوم أن يدركوا هذا جيّدا: المسألة اليوم في نظر عامّة النّاس صراع بين وزير مصلح، خدوم ومبدع، وأساتذة متواكلين وطمّاعين وعابثين بمستقبل التّلاميذ، وهذا هو الوضع الذّي أراد الوزير أن يصل إليه. إذا انتصر الوزير على النّقابة اليوم (والمسألة أصبحت فعلا معركة) فإنّ ذلك سيكون إذلالا للأساتذة في عمومهم، ولن يفرّق عامّة النّاس بين الأستاذ المجتهد والأستاذ الكسول، بل إن هيبة الاساتذه جميعهم، كسولهم ومجتهدهم، النّزيه منهم والطّمّاع على حدّ سواء، سيصيبها من الأذى ما لن تقوم لهم به قائمة بعدها حتّى حين، في بلاد وضع الأساتذة فيها متردّ عند النّاس، والإعتداءات عليهم من بعض التّلاميذ والأولياء أصبحت عاديّة ومألوفة.

فالأستاذ هو الضّحيّة الأولى والمنهجيّة لفساد أخلاق الكثير من المراهقين وأولياءهم. كلّ أستاذ يعتزم الوقوف مع وزير مرّغ صورة الأستاذ في الأرض ضدّ زملائه عليه ألاّ يتباكى غدا عندما يحاول أن يقوّم أخلاق تلميذ فيأتي وليّه ليقول له: "زايد، ما يصلح معاكم كان ناجي جلّول". ونحن في بلد الأستاذ أدرى الناس فيه بمستوى تردّي الأخلاق.

من أجمل ما قيل في هذا ما كتبه الإمام الغزالي في كتاب الإحياء حين قال ما مفاده: إذا علمت لعالم زلّة فلا تنشرها بين عامّة النّاس، فإنّك بذلك لا تفضح العالم بل تحطّ من قدر العلم عند العامّة، فالعامّة لا تفرّق بين قدر العلم وقدر العالم. هناك الكثير من الخور في سلك التّعليم، ولكنّ مجتمعا لا يكون فيه المربّي في رتبة الوليّ مجتمع فاسد، ووزير تعليم يحرّض النّاس على الأساتذة وزير يجب أن يقال ولو جاء بإصلاح لم يأت به يوسف بين قوم فرعون ولا رأى النّاس له في الكون نظيرا. وزير تعليم يصلح التّعليم بالحطّ من شأن المعلّم عند العامّة يجب أن يقال، فهو كمن يقيم صرحا ثمّ يأتي على دعائمه فيقوّضها. هذا هو عندي فصل المقال في ما للوزير وما عليه. المسألة ليست في تفاصيل حافلة مدرسيّة ولمجة وغيابات وناجي جلّول ضدّ النّهضة واليعقوبي مع حزب الدّيك، إلاّ لمن أعمى حقده غلى خصمه بصره، أو لمن لم يتجاوز بصره حافة أنفه.

لهذا السّبب أساند أساتذة التّعليم الثّانوي مساندة مطلقة رغم اختلافي مع عمرو أو زيد. إذا خسر الأساتذة معركتهم ضدّ وزير ما فتئ يحرّض الغوغاء عليهم، واعتبرهم "كُرّاي" في معاهد مالكوها التّلاميذ (وفي العبارة ما فيها في زمن وبلد يحطّ فيها القاصي والدّاني من شأن الأستاذ وتنصب المنابر والمناضد لتحليل مباراة كرة قدم) فإنّ ذلك سيكون صفعة للأستاذ في المطلق، للمجتهد والمتواكل. برّى غدوة فسٰر للولي إلّي إنت كنت مع ناجي جلّول، وقتلّي يجي يحاسب فيك "علاش تعيّطلي على ولدي والا شبيك تقلّو اقعد محترم في القسم، آش يهمّك فيه إنت كيفاش يقعد؟ ماهو قرّي درسك واخرج، يخّي إنت باش تربّيه؟ " (هذه عيّنة ممّا يعانيه الأساتذة).

هذه مسألة المبدأ. وزير تربية يحطّ من قدر الأستاذ ويحرّض عليه لا يصلح أن يكون وزيرا. لي صديق عندما كان في المعهد رجع إلى أبيه يوما، وكان أبوه مدير مدرسة ابتدائيّة من ذلك الجيل العظيم الذّي بنى أسس هذه البلاد، وقال له: " يظهرلي أستاذ العلوم الطّبيعيّة عامل عليّ بونتو" فلم يدر إلاّ ويد والده تنهال عليه بصفعة وهو يقول له: "شكون تحساب روحك باش أستاذ بقدرو يعلم عليك إنت بونتو؟!". ذلك الصّديق علم بعدها بسنوات أنّ والده ذهب سرّا إلى أستاذ العلوم الطّبيعية يستفسره عن الأمر وما فيه! ذلك سلوك من يعلم قيمة حفظ المقامات. أمّا وزير تعليم يحطّ من شأن الأستاذ عند التّلاميذ وعامة النّاس فعليه أن يرحل ولو جاء بإصلاح لم يأت به نبيّ مرسل أو زعيم ملهم. قف! انتهى.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات