ليس المطلوب أن يكون المعارض واقعيا، فالمعارضة في جوهرها هي ضرب من الخيال الذي يُراد منه الارتقاء بسبل العيش وعدم التواطؤ مع كسل السلطة الذي يقود إلى عجز أدواتها في التفكير والتنفيذ.
المعارضة ليست نفعية لكي تكون واقعية. أما إذا كانت نفعية فإن واقعيتها ستنزلق بها إلى الموقع الذي تكون فيه عاجزة عن الإقناع بصفتها المعارضة. حينها تصبح الوجه الآخر للعملة. المرآة التي يرى فيها الحكم شيئا منه.
وقد يكون نوعا من المفارقة أن يُقال إن المعارضين حالمون حتى تتاح لهم فرصة القفز إلى السلطة. وهو ما يقيّد الفكر المعارض بآليات العمل السياسي المباشر الذي يلتزم بظروف، ليس بإمكانه العمل على تغييرها.لذلك يفضل الكثيرون أن يبقوا في صفوف المعارضة، ففي ذلك الموقف ما ينجيهم من فضيحة وعودهم غير القابلة للتنفيذ.
غير أن المعارضة الحالمة مفيدة أيضا للحكم الواقعي. فالواقعية هي ذريعة السياسيين التي يستعملونها من أجل تبرير استمرارهم في السلطة. إنهم يلقون تبعة واقعيتهم على ما يحتاجه رجل الحكم من تفهم للظروف التاريخية المحيطة. لذلك فإنهم ينظرون، بحسد، إلى ما يتمتع به المعارضون من حرية تفكير وممارسة.
لذلك تبدو المعارضة الحالمة ضرورية للحكم الواقعي. أما إذا لم يكن الحكم واقعيا، فإنه سيسعى بكل السبل إلى التخلص من معارضيه، وهو ما حدث ويحدث في العالم العربي. هناك حيث ينحصر الخيال كله في كيفية البقاء في السلطة والاستمرار في الحكم في ظل جمود فكري يحرم المجتمع من قوته الداخلية التي تسعى إلى التغيير.
غالبا ما يعتقد سياسيو الحكم العرب أنهم عمليون. التعبير الذي يُقصد به التخلي عن الخيال بشكل قطعي. وهو ما تجلى من خلال عجز النظام العربي عن الوصول إلى حلول ناجعة لمشكلات المجتمعات الذي يفترض به أن يصرف شؤونها، ويضع خططا لتفكيك أزماتها الطبيعية قبل وقوعها.
لقد درج النظام السياسي العربي على نفي وجود فكرة المعارضة الوطنية. كل معارضة إنما تنطوي على خيانة من وجهة نظره. وهو ما انعكس سلبا على طريقة تفكير المعارضين بسبل خلاصهم.
لقد تفرغ المعارضون العرب لإثبات واقعيتهم التي هي من وجهة نظرهم الدليل الناصع على وطنيتهم. وهو ما أدى إلى أن تفقد المعارضة عنصرا مهمّا من عناصر مشروعها. ذلك هو العنصر المتصل بالخيال الذي من شأن وجوده أن يضع المعارضة في مكان أرقى من المكان الذي يقف فيه النظام.
ما يحدث في العالم العربي يؤكد أن معارضي الأنظمة العربية السابقين هم صورة عن تلك الأنظمة التي عارضوها محتجين على سلوكها القمعي، غير المكترث بإرادة المجتمع، والذاهب إلى أقصى حدود البلاهة في فهم متغيرات الحياة في عصرنا.
فإذا نحينا الوطنية جانبا، وهو ما لم يعد عنصرا مهما في الحديث السياسي العربي الحالي، فإن أولئك المعارضين إن كانوا قفزوا إلى السلطة أو أنهم في طريقهم إليها ليسوا ديمقراطيين ولا أحرارا ولا مستقلين ولا نزيهين ولا متواضعين ولا قادرين على تحمل وجود معارضين لهم.
ألا يعني ذلك أن المجتمعات العربية قد نكبت مرتين. مرة بحكامها، ومرة أخرى بمعارضيها؟ شيء من هذا القبيل يمكن تلمّس أثره في العراق وسوريا. ففي العراق معارضون سابقون أصبحوا حكاما، واحدة من أعظم مآثرهم أنهم ارتقوا ببلادهم لتحتل المرتبة الأولى على لائحة الدول الفاشلة التي تتمرغ في وحل الفساد.
في سوريا هناك معارضين سلموا ثورة الشعب إلى الممولين الإقليميين والدوليين الذين عبثوا بأحلام الشعب حين وضعوا حراكه السلمي تحت مطرقة الجماعات المسلحة.
معارضتان واقعيتان وعمليتان بكل ما تنطوي عليه الصفتان من نفعية مكدرة للحواس.