في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، لم يكن للوالد أن يستخرج " كرني الدواء" أو يشتغل في الحضائر أو يظفر أبناؤه بالڤوتي أو منحة المبيت أو الأدوات المدرسية المجانية ومختلف الإعانات أو ينتقل للسكنى في " الملاجي" وهي مساكن لا تتجاوز مساحتها الأربعين مترا مربعا بنتها الدولة لضعاف الحال من الفلاحين، إلا بالحصول على وثيقة خطيرة تتوقف عليها حياتنا كلها وهي.......شهادة الفقر!
وشهادة الفقر هذه لا يمكن الحصول عليها إلا من العمدة !!!
والعمدة لا يعتمد أي مقاييس دقيقة عند منحها، ولا يكلف نفسه أن يتحقق من وضعيتنا المادية على الأرض ،وأذكر أنني اصطحبت هنية إلى مكتبه المبني من الحجر والملاصق " لحوشه " الواسع وكنت وقتها قد تحصلت على " السيزيام من الضربة الاولى"واحتاج شهادة الفقر للحصول على " منحة المبيت" ، فاستقبلنا واجما مقطبا ولما سألته هنية عن سبب استقباله البارد لنا أجابها متأففا:
-ولدك نجح في السيزيام وما جبتيش ليا المبروك …
وأسقط في يد هنيّة وأقسمت له أنها تعمدت الأمر في انتظار أن تسمّن له " دندونة على كيف كيفو" ،وسترسل له أيضا بطانية وقشابية، فظهر البِشر على وجهه المربدّ،ولكنه لم يسلمنا الشهادة الملعونة مشترطا أن تتسلمها هنية من زوجته رأسا" وقت تجيب اللي تفاهمنا فيه"
الحقيقة أن الحصول على شهادة الفقر في عصر المجاهد الأكبر باني تونس الحديثة كما كانوا ينعتونه في الإذاعة كان أمرا معقدا ومهينا للغاية،فقد كان مطلوبا من العمدة وهو لص محتال مرتش أن يشهد أننا فقراء،ولم تكن هناك أي آلية تتحكم أو تراقب قرار العمدة ،وأذكر أننا حرمنا سنتين كاملتين من كرني الدواء الذي يخول لنا التداوي مجانا في المستوصف ،بسبب خصومة على حدود الأرض بينه وبين أحد أعمامي،وقد توجه يومها لعمي مهددا:
- والله إلا ما نحرمكم من شهادة الفقر وإلا ما تموتوا كالكلاب ولا يداويكم حدّ!
وهو ما حصل فعلا، حتى ان مدير المدرسة الابتدائية حذف اسمي من قائمة من يحق لهم الحصول على " الڤوتي" مما جعلني أعيش يوما كاملا على الطوى باعتبار أن المدرسة بعيدة والدراسة تتم بنظام الحصّتين !