تجوب المدوّنة التّراثيّة طولا و عرضا على اختلاف مجالاتها و علومها و معارفها ومذاهبها و مدارسها واختصاصاتها و حقبها التاريخيّة بما توفّره لك التكنولوجيا الرقميّة من محرّكات بحث فلا تجد في تعريف السّلف و الخلف و تابعيهم للسياسة من يسمها أو يصمها بالنّجاسة أو الفعل النّجس أو المُنَجِّسِ ، رغم التّحذير الوارد في هذه المدوّنة من جور الحكّام و التنفير من الوقوف بباب السّلطان و مصاحبة أهل الصّولجان و تهيّب أهل الصّلاح من المناصب خاصّة القضاء خشية انتهاك حقوق النّاس ،
ولكن لا تجد البتّة من يستقذر السياسة ويعدّها من النّجاسات أو الخبائث أو الرّجس الشيطاني الذي يجب اجتنابه و التوقّي منه .
من أين جاء إذا هذا الوصم للسياسة بالنّجاسة و للسياسيين بالأنجاس ؟
هو من آثار السياق المسيحاني الذي قسّم الحياة و العالم و الوجود إلى فضاء روحي طاهرٍ مقدّسٍ متعالٍ و فضاءٍ زماني أرضي نجسٍ مدنّسٍ،
و فاضل بين الفضائين رغم سطوِ المؤسّسة الدينيّة الرسميّة ممثّلة في الكنيسة الكاثوليكيّة على الفضائين من خلال تحالفها مع المؤسّسة الملكيّة طيلة القرون الوسطى و ممارستها أبشع الانتهاكات .
و هو كذلك من آثار خطاب العلمنة لتبربر الفصل بين الدّين و السياسية، حيث دعا أهلَ الدّين إلى عدم تدنيس الدّين بنجاسة السياسة حتّى يحافظ الدّين على طهرانيّته و صفائه و نقائه و تبقى السياسة مجالا خالصا للسياسيين يمارسون فيه اللعبة السياسيّة القذرة و مناوراتها ،
و هي تصوّرات غريبة عن سياقات التمثّل التراثي لإدارة الشّأن السياسي حيث يحيل لفظ السياسة في المعجم العربي على حسن التّدبير و الرّياضة و الترويض و رعاية مصالح النّاس و إصلاحهم.
و قد دخل لفظ السياسة في عناوين المؤلفات في القرن الرّابع للهجرة ليحيل على فنّ من فنون المعارف و العلوم التي صنّفت ضمن الحكمة العمليّة في كتب تصنيف العلوم و إحصائها .
ومنهم من ربط بين السّياسة و الدّين مثل ابن سينا ، حيث اعتبر هدف السياسة من حيث هي فرع من فروع الحكمة العملية الوصول إلى خير الإنسان في دنياه وآخرته.
و منهم من لم ير ذلك مثل الفارابي الذي يرى أنّ العقل كفيل بتحقيق الفضيلة و صنّف السياسة ضمن العلم المدنيّ الذي يضبط أنواع الرياسة والسياسات والاجتماعات المدنية وأحوالها.
و مهما اختلفت التمثّلات و المفاهيم لم تنفصل السياسة أبدا عن الأخلاق و الحكمة و الفضيلة في كتب تصنيف العلوم و اصطلاحات الفنون بل ذهب الغزالي إلى اعتبارها أشرف العلوم .
و لم يشذّ الفقهاء و الأصوليّون و علماء السياسة الشرعيّة عن هذا المعنى حيث أورد ابن عقيل و هو فقيه حنبلي في تعريف السّياسة أنّها :
" ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي "
السياسة إذا فعل شريف و مهمّة نبيلة تقرّها العقول و الأديان طالما لم يداخلها تسييس للمقدّس و إضفاء قداسة على الكسب البشري في إدارة الشّأن العامّ و لم تتحوّل الى جور و قهر و تسلّط على رقاب النّاس و تنفّع وفساد وإفساد في الارض.