لماذا كلما تقع حصص استماع بهيئة الحقيقة والكرامة، تتعالى المواقف من النقيض الى النقيض، بين مقزّمٍ لبورقيبة ومُؤلِّهٍ له؟ بين من يعتبر أنّ لولاه ما طلعت شمسٌ ولا أضاء قمرٌ، وبين من يعتبر صلته بالحكم بين حلاوة الرضاع ومرارة الفطام، وانه هو سبب مآسيهم.
فهذا يدرّس مادة الوطنية قائلا بأن بورقيبة بطل وطني أنقذ البلاد من براثن التخلف وأرسى العدل والعمران، ويتحوّل الاخر الى واعض في احترام رموز الأمة، والآخر يتقمّص شخصية ثورية تميل الى الانطباع وكأنه صاحب الحمار في ثورته بالمهدية ضد الدولة الفاطمية ليصنّف الثوري والرجعي، فيحسم في هذا ويمجّد ذاك ويرضى عن هؤلاء.
وبعيدا عن التقليل من احترام الرأي خصوصا لدى الشباب الذين لم يعاصروا بورقيبة ولم تكن مناهج تعلمهم لتاريخ الحركة الوطنية طيلة عقود كافيةً إن لم تكن موجّهة ولا أولت لها الندوات الإعلامية آنذاك الأهمية والدقة التي تستحقها. وبقطع النظر عن المناورات السياسية المناسبتية التي تتخذ من سيرة بورقيبة رأسَ مالٍ للتقليل من وقع الشهادات التي يدلي بها أشخاصٌ ظُلِمُوا في عهده. وبقطع النظر عن التعثرات التي تشوب مسار الانتقال، أعتقد :
(1) ان المجتمع يمرّ بعجز هيكلي من حيث المرجعيات والريادة والرؤى المستقبلية وتعبئة الطاقات لبناء تونس الغد؛ عجز لم يغطِّه لمين النهدي ولا كاظم الساهر ولا السيارة الشعبية في بداية التسعينات، ولا مايكل دجاكسن في نهاية التسعينات، ولا أغلبية السّاسة الحاليين الذين لا يبدون واعين بهشاشة المرحلة في المستوى الاجتماعي والسيكولوجي،
(2) أنّ البحث عن مرجعية بورقيبة او الثعالبي أو كارل ماركس او بن يوسف انما هي عناوين مجردة لا تفي علميا بالحاجة إلا لدى المختصين بعلم التاريخ وبعلم النّظم السياسية. ذلك ان المجتمع قد تغير والتحديات وموازين القوى الداخلية والإقليمية قد تبدّلت ووجب على الجيل الحالي التعاطي معها بما أوتي من معرفة وإرادة .
(3) وفي نفس الوقت، يبقى التشبث غير العقلاني بهذه المرجعيات سلاحا ذَا حدين لأنه ينمي التجاذبات العقيمة بحيث تتواصل الثنائيات الاجتماعية الموروثة منذ عقود والتي من خلالها تبقى هذه المرجعيات دكاكين يرتزق منها المناوئون باستقرار البلاد، ما اذا لا يتم اعتماد قراءة تاريخية فيها الحد الأدنى من الاتفاق بين المختصين كسائر الدول المستقرة اجتماعيا.