ما تناقلته وسائل الإعلام بعد جلسة الاستماع العلنية لهيئة الحقيقة والكرامة، المنعقدة يوم 24 مارس الجاري، أن سهام بن سدرين دعت الجامعات التونسية والمؤرخين إلى إعادة كتابة تاريخ تونس استنادا إلى "المادة الأولية التي تم جمعها من قبل الهيئة، والمستندة إلى أعمال تقصّ وشهادات، بشكل يساعد على تحقيق المصالحة الحقيقية”. ورغم ذلك الوضوح في توفير مادة جديدة للمؤرخين، فقد كان ذلك مناسبة لشن حملة إعلامية وسياسية منسقة ضد سهام بن سدرين.
والحقيقة أن هذا ليس جديدا، فقد كان الأمر نفسه يتم في العهد النوفمبري، وبلغ آنذاك منتهى الدناءة الأخلاقية والسقوط القيمي، دون أن يؤثر ذلك عليها سلبيا، ولا ينتظر من الحملة الحالية أن تحقق نتائج أفضل من سابقاتها. إلا أن القائمين عليها قد لا يكون هدفهم في حقيقة الأمر رئيسة الهيئة، وإنما هي لا تعدو أن تكون مناسبة ككل مرة للتغطية عن قضايا أخرى مطروحة على الساحة الوطنية.
أما دعوة سهام بن سدرين فلا يمكن -مهما أوّلناها- أن تكون سببا للتهجم عليها أو على الهيئة أو على العدالة الانتقالية، وإلا ففي حق من أجرمت سهام بن سدرين ؟ أين يكمن خطأها بالضبط ؟ هل في أنها توجهت للجامعات والمؤرخين للاستفادة من "المادة الأولية" التي تم جمعها من ذاكرة الضحايا؟ أم الخطأ قبل ذلك في أن الهيئة جمعت تلك المادة؟ أم أن كتابة التاريخ تمت وكفى ولسنا في حاجة إلى مصادر جديدة ولا كتابة جديدة؟ ولماذا تكفل الإعلاميون بالحملة دون غيرهم؟
أما المؤرخون حتى الهواة منهم فهم لا يمكن أن يستنكروا توفر مصادر جديدة من الذاكرة أو الأرشيفات، ولا يمكن أن يكونوا ضد مراجعة كتابة التاريخ سواء المعاصر أو حتى القديم، لأنهم في هذه الحالة يتخلون عن دورهم ومهنتهم. ولكننا نفهم من جهة أخرى أن الكثير من محركي هذه الحملة ومموليها، يتوهمون أن كتابة التاريخ لا رجعة فيها ولا مراجعة لها، أو هم لا يفرقون بين التاريخ والذاكرة. وهذا مشكلهم هم يتعلق بمستواهم الثقافي. أو إن أحسنا الظن بهم، فهم يتعمدون الخلط بين الذاكرة والتاريخ، لأهداف لا تتعلق بمعرفة الحقيقة ولا بالتاريخ ولا بالعدالة الانتقالية.
أما المادة التي جمعتها هيئة الحقيقة والكرامة سواء من الأرشيفات أو من أفواه الضحايا فلا يمكن للمؤرخين المحترفين مستقبلا التغافل عنها أو تجاهلها؛ بل لا يمكن قبول أعمالهم إذا لم يعتمدوا عليها. من الآن فصاعدا ليس المنتصرون وحدهم من يكتب التاريخ، وإنما المنهزمون أيضا بإمكانهم أن يدلوا بدولهم ويتركوا أثرهم. شكرا لهيئة الحقيقة والكرامة لما قامت به في سبيل الذاكرة الوطنية وفي سبيل تاريخ تونس.