في سيناريو درامي يستمر تعطّل تركيز المجلس الأعلى للقضاء، الهيئة الدستورية العليا للسلطة القضائية في تونس. ومهما كانت التفسيرات والتبريرات لهذا التعطل فإنها لم تعد مقبولة بالمرة بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على كتابة دستور يناير 2014 الذي نص في الفصول 112 و113 و114 منه على تشكيل المجلس الأعلى للقضاء.
ولكن مسار تنفيذ هذا الفصل الدستوري المتعلق بتركيز مجلس أعلى للقضاء في تونس يسهر على تأمين قيمة العدالة باعتبارها شرطا للسلم الاجتماعي والأمن الاقتصادي والاستقرار السياسي، شابته الكثير من العثرات والأخطاء وقعت فيها جميع الأطراف وأولها الحكومة.
ومن ذلك أن الدستور نص على ألا يتكون المجلس الأعلى للقضاء من قضاة فقط، بل من أربعة هياكل هي مجلس القضاء العدلي ومجلس القضاء الإداري ومجلس القضاء المالي والجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة ويضم قضاة عدليين وقضاة إداريين وقضاة محاسبين وأساتذة جامعيين ومحامين وعدول تنفيذ، وهذا مهم جدا حرصا على ضمان العدالة وإعادة الحق لأصحابه.
واشترط الدستور أن تكون تركيبة المجلس تتكون من أعضاء منتخبين وآخرين معيّنين بالصفة من أصحاب الخطط القضائية العليا، والحكومة هي من تسند هذه الخطط. ولكن قبيل تشكيل المجلس وخلال إجراء انتخاباته في 23 أكتوبر 2016 كانت بعض هذه الخطط العليا شاغرة ممّا عطل الشأن القضائي وسمح بالتجاوزات، ومع ذلك لم تعمل الحكومة على أداء دورها في سد هذه الشغورات التي منعت من اكتمال نصاب المجلس بعد انتخاب المنتخبين منه.
ووجدت الحكومة نفسها في مأزق ذي وجهين؛ الأول أخلاقي يتمثل في كونها لو قامت بخطوة في اتجاه تسديد الشغورات في الخطط القضائية العليا التي ستكون ممثلة بالقانون في تركيبة المجلس بالصفة، فإن ذلك سيعد سعيا للاستحواذ على المجلس وضربا لاستقلاليته.
والوجه الثاني دستوري، إذ أن الترشيح للخطط القضائية السامية لا يكون إلا عبر المجلس الأعلى للقضاء الذي لا يمكنه حسب الدستور أداء هذه المهمة إلا بعد اكتمال نصابه.
وهذا ما لم يحدث إذ لم يتم تسديد الشغورات وبالتالي لم يكتمل النصاب ولم تتم دعوة المجلس إلى عقد جلسته الأولى من قبل الرئيس الأول لمحكمة التعقيب ورئيس الهيئة الوقتية العليا للقضاء العدلي خالد العياري. وهذه من أكبر أخطاء الحكومة في هذا الملف، إذ أن القانون ينص على فترة الشهر التي تكون بيد رئيس الهيئة الوقتية العليا للقضاء العدلي منذ الإعلان النهائي عن نتائج انتخابات المجلس الأعلى للقضاء يوم 24 أكتوبر 2016..
ولكن رئيس الهيئة الوقتية العليا للقضاء كان على مشارف الإحالة على التقاعد خلال هذه الفترة أياما فقط قبل أن تنتهي فترة الشهر. ويبدو أنه حاول الضغط على الحكومة للتمديد له في خطته بدعم من حركة النهضة. ولكن الحكومة لم تستجب ووقعت مناوشات بينه وبين وزير العدل في وسائل الإعلام. وبذلك خرج الشأن القضائي السامي من شأن موضوعي عام إلى شأن ذاتي شخصي لعبت فيه الأهواء والانفعالات دورا معطلا أساء له وللعدالة ولسعي تونس لمقاومة الفساد واستكمال مسيرة تركيز مؤسساتها.
كان على الحكومة أن تتفطن إلى هذا المأزق وأن تحسن التصرف في الملف لأن المجتمع المدني كان يراقب كل التحركات المتعلقة بالشأن القضائي، لا سيما المتصلة منها بالمجلس الأعلى للقضاء، وعاين الجميع فقدان الجرأة وتحمل المسؤولية لدى الحكومة بما ساهم في هذا الوضع الشائك للمجلس الأعلى للقضاء لأنها لم تستجب إلى الترشيحات التي قدمتها الهيئة الوقتية العليا للقضاء العدلي في الخطط الشاغرة. هذا طبعا إلى جانب وقوع المجلس ضحية الخلافات المدمّرة بين جمعية القضاة التونسيين من جهة، ونقابة القضاة وهيئة القضاء الإداري من جهة ثانية. ورغم أن الأعضاء المنتخبين ضمن تركيبة المجلس الأعلى للقضاء أدوا اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية في 14 ديسمبر 2016، فإن المجلس لم ينجح في عقد جلسته الأولى إذ لم يعد هناك من يخول له القانون لدعوته إلى الانعقاد بعد إحالة الرئيس الأول لمحكمة التعقيب على التقاعد. وبقي المجلس في وضع غريب مريب وشؤون التونسيين معطلة.
وهنا يأتي تدخل الحكومة عبر مشروع تعديل قدمه وزير العدل إلى الجلسة العامة بمجلس نواب الشعب منذ أيام قليلة يتلخص في نقطتين كبريتين لتجاوز الوضع المنغلق؛ الأولى أن يتولى رئيس مجلس نواب الشعب دعوة المجلس الأعلى لعقد جلسته الافتتاحية مع التنصيص على أن هذه الدعوة غير قابلة للطعن، وهذا ما اعتبر ضربا لاستقلالية القضاء وتدخلا سافرا من نواب الأغلبية في الشأن القضائي واستحواذا على صلاحيات القضاة. والنقطة الثانية هي أن يجتمع المجلس بأغلبية النصف لا الثلثين.
وقد صوت نواب الائتلاف الحاكم على مشروع التعديل لقانون المجلس الأعلى للقضاء بأغلبية 120 صوتا من جملة 217 واحتفاظ نواب من النهضة بأصواتهم في إشارة إلى عدم اقتناعهم بالمشروع. وشهدت الجلسة انسحاب نواب من الجبهة الشعبية والكتلة الديمقراطية والاتحاد الوطني الحر الذين طعنوا في دستورية القانون لدى الهيئة الوقتية لدستورية القوانين. وعريضة الطعن هذه تؤجل توقيع رئيس الجمهورية على القانون بما يعطل تنفيذه. وإذا أقرّت الهيئة بلا دستورية القانون سقط وعدنا إلى المربع الأول.
المشكلة الكبيرة أن مشروع تعديل القانون الذي مر بأغلبية مريحة نسبيا يلاقي معارضة كبيرة من قبل القضاة أصحاب الشأن. وتجلت هذه المعارضة في الإعلان عن خارطة إضرابات ستشل المرفق القضائي. وهو ما يعني أن ولادة المجلس الأعلى للقضاء بعد مشروع التعديل الحكومي وبعد عريضة الطعن من قبل المعارضة لن تكون سليمة.
وإذا ما أصرت الحكومة والائتلاف الحاكم على المضي قدما في خيارهما هذا فإن المجلس سيتفتت بالانسحابات القطاعية وسيفقد تمثيليته الدستورية التي ستجعله أمام احتمالين اثنين؛ إما اللجوء إلى التعيينات أو الانتخابات الجزئية وهو ما سينسف المبدأين الرئيسيين له ألا وهما مبدأ الاستقلالية والحيادية، وإما الانحلال وإعادة المسار برمته. وهو ما يعني تأخر تأسيس فروع المحكمة الإدارية في الجهات التي ستشرف على الانتخابات المحلية المقررة في ديسمبر 2017 بما يهدد بتأجيلها، ما يعني كذلك التأخر في تركيز الأقطاب القضائية العدلية والمالية المنوطة بها مقاومة الفساد.