في عام 2003، غضب عراقيون من العرب، ومن “العروبة”، ورحبوا بالدبابات الأميركية التي أزاحت نظام صدام حسين في 19 يوماً، بعد فبركة أسباب ثبت أنها غير صحيحة. كما ثبت أن المخابرات المركزية الأميركية خدعت الأميركيين والعالم بحكاية “أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها نظام صدام”، بالتواطؤ مع الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير.
سبب غضب العراقيين من العرب آنذاك هو في تأخرهم عن مساندة العراق لإزاحة صدام! ولأنهم وقفوا ضد الاحتلال، أو شككوا في جدواه، على الأقل. بالطبع، المقصود بالعرب هنا الأفراد، وليست الحكومات، التي لم تنجد “عروس العروبة” طوال أكثر من سبعين عاما.
يتكرر اليوم الانقسام العربي نفسه سورياً بعد الضربة الجوية الأميركية لمطار الشعيرات، حتى داخل “معسكريْ” الموالاة والمعارضة، كلا على حدة، وعلى القاعدة نفسها، من حيث أن أميركا قامت بذلك إكراماً لعيْن معارضات الأسد، وضد نظام الأسد.
وللمطابقة، لم تتدخل أميركا كرمى لعين العراقيين، أمس، ولا تتدخل اليوم انصافاً لأبرياء السوريين بعد مجزرة خان شيخون الكيماوية، وإلا لكانت تدخلت من أجل أبرياء الغوطة بعد مجزرة الغوطة الكيماوية الأسدية الكبرى في 24 أغسطس 2013.
وفي أكثر الافتراضات تفاؤلاً، جاءت الضربة الأميركية لمطار الشعيرات في إطار التنافس على تقاسم النفوذ بين أميركا وروسيا، فالطائرات الروسية قصفت بعد ساعات من ضربة “الشعيرات” الأميركية، قرى في ريف حماة الشمالي، وقرى في إدلب، موقعة قتلى وجرحى، ما يعني ببساطة أن “اتفاقية السلامة الجوية” قائمة، وأن “خطط” روسيا في دعم الأسد لم تتأثر عملياً بما جرى صباح الجمعة في الشعيرات.
كما لم تتغير اللهجة الدبلوماسية الأميركية باعتبار محاربة داعش هي الأولوية، خلافاً لرد الفعل العاطفي الذي اشتعل إعلامياً لساعات، وانتهى بأحاديث ما فوق الطاولة في مجلس الأمن بتبادل الاتهامات، فيما سيتولى عقلاء روسيا النصيحة باعتماد سياسة الدب الروسي حتى تبرد “الغضبة المضرية” للرئيس الأميركي ترامب.
والمفارقة الفصامية أن أميركا تتولى التغطية الجوية للقوات العراقية وميليشيات الحشد الشعبي في العراق. هذا حلال، وسياسة، والتقاء مصالح هناك. أما في سوريا، وفي الشعيرات، فالتوماهوك الأميركية اعتداء على “السيادة الوطنية السورية”، واعتداء على دولة مستقلة.
حتى إيران، وميليشيا حـزب الله، ينظران بارتياح إلى الدعم الأميركي في العراق، تماماً مثل الدعم الروسي لهم في سوريا، وبغض النظر عن اعتراف روسيا بـ“القدس الغربية” عاصمة لإسرائيل، كأول دولة في العالم تعترف بأي جزء من مدينة القدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي.
سوريون يفرحون بضرب الطيران الأسدي، دون تحفظ، ظاهرياً، وآخرون يدينون الضربة دون تحفظ، وظاهرياً أيضاً. مبررات الطرفين مفهومة، ولا تحتاج إلى شرح. ما يحتاج إلى شرح هو التشكك في كلا الموقفين، فلا فرح الطرف الأول كامل، ولا حزن الطرف الثاني كامل. وكلاهما في شك مما يشعر، على الأقل كونه لا يملك ما يغير به ما وقع ويقع، ولأنهما في حيرة من الاختيار بين النظام الأسدي وداعش وأميركا وروسيا، على مبدأ أحلاهم مرٌّ.
فالسوريون يشعرون، على اختلاف مواقفهم، أن هذا خير لهم، أو شر، ليس أكثر. تماماً كما شعر العراقيون في عام 2003، حين سقط صدام حسين بيد أميركية، وتهليل عراقي شعبوي.
العراقيون أخذوا وقتهم، واختبروا شعورهم، خاصة في ما بعد 2006، حين ظهرت بواكير داعش من خلال “قاعدة العراق” على يد أبومصعب الزرقاوي، مستغلاً المحاصصة الطائفية التي أنتجت “مظلومية سنية” في غرب العراق تزاوجت فيها نقشبندية عزت الدوري مع أصولية أبوبكر البغدادي.
أما السوريون الذين طالت حربهم على نظامهم أكثر بكثير من 19 يوماً، ولم يسقط في كل تلك الأيام ديكتاتورهم، ولم يُعدم بـ”عدالة” ما كما جرى مع صدام حسين، فمازالوا يقارنون ما يجري في بلادهم مع ما جرى في العراق، لجهة التدخل الأميركي والروسي، دون تناسي أن كل بغاث الأرض دخل أرضهم منتصراً لجزء منهم على حساب الجزء الآخر. مع أن كلا الجزأين مهزوم، بلا حول أو قوة.
لكن المقارنة غير جائزة، ومفردات مبررات العراقيين والسوريين للثورة على النظامين غير متطابقة، على الرغم من بعثيتهما، وديكتاتوريتهما. حتى داعش المشترك بينهما، ومحاولة القول إن داعش جاء من العراق، لا يصمد في التحليل، لمعرفتنا بهشاشة حدود سايكس بيكو بين الجمهوريتين البعثيتين.
لنلاحظ هنا أن البعث في العراق أنتج “بعوثاً” هناك من متن قانون “حظر حزب البعث هناك”، وأن البعث السوري مجرد مرشِّحٍ للفساد، وغطاء لديمقراطية طائفية لا تخفيها صناديق اقتراع شفافة مثقوبة القعر تسبح فيها سلطة الصوت الانتخابي نحو أبد الديكتاتور فقط.
التشابه المطلق بين أبد صدام حسين قبل اغتياله أميركيا، وإعدامه عراقيا، وبين أبد ابن حافظ الأسد، أن الأول لم يتمكن من توريث الأبد، مع اكتمال أركان النية، بينما تمكن الأبد السوري من ذلك في عام 2000. أما التشابه الجزئي بين الأبدين، الذي تأخر حتى عام 2011، فيأتي من التقاء مصير الأول ببداية مصير الثاني. وهنا، تلتقي فاعلية داعش مع التخاذل الأميركي الأوبامي، حتى في أول مئة يوم من عهد ترامب، وعلى الرغم من مفاجأة الضربة الأميركية في الشعيرات. أما غير المفاجئ في الضربة فهو اختيار صواريخ توماهوك بدلاً من الطيران، دليلاً على عدم مخاطرة أميركا باحتمال أن تنطلق صواريخ منظومة “س 300”، و“س 400” المكلفة بحماية الوجود الروسي في سوريا نحو الطائرات الأميركية، في اختبار أول لتلك المنظومتين لا ترغب فيهما الدولتان عند هذه الدرجة الدنيا من عتبة”المصالح القومية”، الأميركية أو الروسية.
أما ما لا يغيب عن الوعي في كلا المسألتين العراقية والسورية، والدور الأميركي الثابت والقادم فيهما، فيأتي من التساؤل المتأخر في كلتا الحالتين: ماذا لو بقي صدام حسين حتى اليوم، بشخصه، أو بوريثه عدي، هل كانت الحال العراقية أفضل؟ وهل كانت سوريا البلاد والعباد أفضل حالاً لو ابتلع السوريون ألسنتهم ولم ينطقوا بتلك الكلمة السحرية التي تدحرجت إلى ثورة في أيام، دون أن يدركوا أن عليهم أن يدحرجوا ثورتهم صعودا نحو سفح لا تظهر قمته؟
في الرياضيات، العدد 59 أوليٌّ لا يقسم إلا على نفسه، أو على واحد. و59 هو عدد الصواريخ الأميركية التي استقبلها “الشعيرات” لم يكتمل إلى 60. مصادفة الأعداد الغريبة سابقة بدأت مع صواريخ صدام حسين التي أطلقها باتجاه فلسطين مستهدفاً إسرائيل في فجر 18 يناير 1991. عدد صواريخ صدام وصل فقط إلى 39 صاروخاً حتى 25 فبراير 1991، متحدياً العرب بإطلاق الصاروخ الأربعين.
في الأمر مجرد مصادفة، لكن عدد صواريخ صـدام حسين غير أولي، كـونه يقسم على نفسه، وعلى واحد، وعلى 13، في إشارة ربما إلى يهوذا كامن هنا، أو هناك، في “الوطن العربي” المقسم إلى دساكر يحميهـا الديكتـاتـور لمصلحة نـواطير العصر