لم اشهد السبت.. كنت بعيدا عن تطـاوين وفاء لالتزام اخر لكن قلبي كان معها. سئلت كثيرا عنها من جهات كثيرة ..لمست في عيون الناس ولهفتهم تطلعا لمعرفة أخبارهـا وخوفا كذلك من ان قد يكون القدر رشح تطاوين لرسمه.
صحيح تطاوين كانت خارج السياق الاحتجاجي منذ عقود وفي الفترات القليلة التي رفعت رأسها قمعت بلا رحمة فهي لا تحمل في ذاكرتها إزاء المخزن قديمه وحديثه إلا ذكريات دامية ترشح بالحرمان وتتشح بالعذاب.
لماذا تحركت تطاوين كما لم تتحرك قط ؟
يصر المتابعون على تفسير الحراك الأخير وفقا لتطبيقات ايديولوجية وسياسية جاهزة ولست أرى من أشكال الظلم ظلما أقسى من إرغام الواقع على الانصياع ذليلا للنموذج او " القالب " المقولب سلفا في سياق اخر.وأحسب أننا ما نزال بحاجة الى أن نفهم أشياء كثيرة لم تبح بسرهـا الى الان.
السياق الأدنى :
إحساس طاغ بأن اللحظة التونسية أسلمها زمانها - في غياب نخبها وغيبوبتهم - الى " كـلاب سائبة " ظمأى الى الدم بعد أن سكرت بالمال الحرام … كلاب علا نباحها وارتفع صوت خصامها البيني. هذا الاستكلاب يهدد بلا ريب الدولة مفهوما مجردا وجهازا يحمي الناس من " سعار " بدأ خطره يتواسع . وما أفلح قوم تولى أمرهم " ضوار " باتوا يفتون في سياسة تونس و إدارة شؤونها ويلهث خلفهم رهط من أدعياء الإعلام والسياسة أمس واليوم.
السياق الأبعد:
تطاوين جهة مناضلة ضحت - بلا منة - بقوافل من الشهداء سقت دماؤهم الزكية الجبال والصحارى دون أن تطرح يوما مجدها التاريخي في المزاد لتقبض مقابله منا وسلوى.
غير أن معاناتها للمظلومية ظلت تغذي منسوب النقمة وعوامل الانتفاض الى أن طفح الكيل.
الحاضر العصيـــب:
بعد أن أهملها المركز شربت تطاوين دمها ودمعها وانتشر ابناؤها في مناف بعيدة وأخرى أقل بعدا عبر البعض الى الضفة الأخرى ولجأ البعض الاخر الى الجارة ليبيا. وبنيت تطاوين بآلام الهجرة المعجونة بالحرمان وانشغل ساسة الجهة بتحضير أعياد الزعيم الراحل والوشاية ببني جلدتهم .
لم تعد الهجرة قادرة على حل ما استعصى من مشاكل الجهة.. المهاجرون الجدد من طينة أخرى قل ارتباطهم بعائلاتهم وشرعت بعد طاحونة " الظروف " والحاجة في تقديمهم الى دول الاستقبال مخزونا سكانيا يعمر أرضا غير أرضه.
اليوم أزفت ساعة الحقيقة وساعة مواجهة الواقع ومواجهة " الدولة " ومحاسبتها رمزيا على الإهمال والتهميش بعد أن جفت منابع كثيرة.
اليوم اهتدى الشباب بعد توهم الى أن النضال السلمي هو الطريق الى ايصال الرسائل لمن ألقى السمع وهو شهيد. اليوم حالة أخرى تتطلب معالجة مستجدة خارج المناويل القديمة.
الصغار جدا اللاهثون وراء الأمجاد الشخصية والراكبون على الام الشباب يلعبون ورقة محروقة… لشباب يرفض ان يكون وقود سياسات ما عادت تفضي الى شيء.
هناك سعي محموم الى مقاومة التنظم أيا كان نوعه هو بالضرورة سعي خاطئ سم يدسه بعض الذين أضناهم الحنين الى ماض مضرج بالمكر. الشباب قوة جبارة يتعين توجيهها نحو الخير وحمايتها من الهدر في المعارك السخيفة او بالاستجابة الى الذوات المتورمة.
الأحزاب طارئة على مشهد الاستبداد وهي صيغة من صيغ التنظم لم ترسخ بعد قدمها في الساحة فذروا التاريخ يصفي الحساب معها.