أن نحترق الإحتراق حد أن نصير رمادا، خير من أن نصمت ونصير جمادا. واقعنا ينزف، يتحلل، وينزلق نحو التبخر. مهما كان أدعاؤنا بوجودنا، فهو محض كذب مرجئ لموت كائن. لايمكن في وضع كوضعنا أن نرتهن للصمت، للإنتظار، لرمي كرة الجمر الحارقة على غيرنا، ما لم نقم بواجبنا تجاه محيطنا، مجتمعنا، وطننا مستقبلنا وقبل هذا وذاك تجاه أنفسنا.
هل هناك من ضمن طريق الخلاص وآوى إلى جبل يعصمه من طوفان التردي الأخلاقي والسياسي والإجتماعي في تونس؟. ماذا لو كشف كل منا عن رؤيته لمجتمعه وقال بصدق صدوق رأيه في حكامه ومسؤوليه وجيرانه وأصحابه؟، لكن قبل هذا وذاك في شخصه. لكي نخطو خطوة صغيرة في أرض مليئة ألغاما وأشواكا وفخاخا وحفرا، علينا أن ندقق جيدا في الحيز المكاني الذي نضع فيه أقدامنا، فوضع القدم وحده، هذا العضو الصغير فقط في مكان ملغوم قد يجعل كل الجسد يتشتت ويتفتت مزقا وأجزاء.
كل شيئ حولنا خاطئ، وأي فرد لا يعلن عن نوع الخطأ وطبيعته لن يكون إلا رتلا من الأخطاء، لايمكن أن ننتظر منه شيئا. كل إطمئنان فعل قاتل. منظوماتنا التعليمية في العالم العربي عموما و تونس خصوصا نتائجها واضحة، إنبتات وإنحطاط كلها متناقضات و متضادات، بؤس وفقر وفساد شامل. لا يحتاج الواحد منا عينا فاحصة أو ميكروسكوبا ليعاين أجرام وجراثيم الفساد المستشري في جسد المجتمع كالسرطان القاتل.
الدولة فاسدة، هذه حقيقة لا ينكرها حتى المسؤولون والحكام. لكن علينا أن نعترف أن المجتمع أيضا فاسد. لا يمكن لدولة أن تستمر يوما في فسادها إذا كان المجتمع صالحا وقويا و واعيا ومتشبع بقيم الوطنية. من منا يستطيع أن ينكر كم الفساد والأمراض الإجتماعية والنفسية ولا إنسانية التي نعيشها في كل لحظات يومنا؟ لا شيء يبعث على الإطمئنان. قد يَحكمون، لكن خارج سياق العصر وروحه، وقد يُحكمون، لكن بطريقة القرون الوسطى، أسياد وعبيد، سلطان و رعية، لا مواطنين يجمع بينهم تعاقد إجتماعي يوفر لكل واحد منا كرامته وإنسانيته.
التعليم آخر ظواهر التأخر في تونس، مثلا، وبعد خمس سنوات من الثورة، ينعى مستواه ويلقي بلائمة يتحمل الوزير مسؤوليتها كاملة، على حكومة لا تملك من أمرها شيئا، تستورد خطة ومنهاجا من بلد خارجي؛ وهي تحديدا فرنسا؛ تشهد نخبتها أن نموذج التعليم فيها في تراجع مخيف. بل الأدهى من ذلك أنه خلال عقد واحد جربت تونس ثلاثة نماذج على حد علمي، كلها آلت إلى الفشل، فكيف نطبق نموذجا فشل في البلد الأم؟
إن الآلة التعليمية والمنظومة التربوية هي مشتل كل حقول المعرفة المستقبلية، وهذا تحصيل حاصل، فكيف تم نخر هذا الجهاز الحساس؟ وكيف تم السكوت عنه؟ إن تصريحات وزير التربية ووزير التعليم العالي وكل النقابات المعنية، وكل كتابات النخبة في هذا المجال هي مجرد غربال لتغطية حقيقة الشمس، ورمي الكرة أو المسؤولية الكبيرة على الطرف الأضعف. فالتعليم الذي لا ينتج إلا الفاسدين والفاشلين مدرسيا و إجتماعيا، هو دلالة قوية على نوعيته. ولم نسأل بجرأة إلى يومنا هذا؛ لماذا إنحدر المجتمع التونسي إلى هذا المستوى؟ ومن هو الفاعل الحقيقي والمسؤول عن كل هذا التردي؟، وهذا مؤشر واضح على طبيعة الشخصية التونسية، فأن يتحدث شخص أو خمسة أشخاص عن حقيقة الفساد في تونس، في مجتمع يفوق عدده عشرة ملايين، تلك هي الطامة والمصيبة العظمى التي تنبىء بإنهيار فظيع للمنظومة الإجتماعية و القيمية.
إن النظام نفسه يصبح معرضا للإنهيار، فمجتمع معظم أفراده تتشكل ذهنيتهم من فراغ مظلم، معرض في أي لحظة لصدام لا يذر ولا يبقي. الإشكال هو في الأساس ذاتي، والخلل إذا لم يتمكن من كل الذوات فإنه لن يتعمم ولن يشمل الجميع. وفي عصرنا هذا الذي ينطبع أساسا بميسم العولمة، ليس في شقها الإقتصادي أو العسكري، وإنما في شقها الإنساني و الثقافي، وهذا ما لا يرغب الكثير من المفكرين الإنتباه والإشارة إليه. فلنعلنها نحن من هنا من بلدان العالم الخارج عن التصنيف والمتراجع خطوات إلى الوراء، والعائد إلى ماضي الإنسانية في شكلها الحيواني الغريزي الذي يهمش العقل والبصيرة والحكمة، أننا لم ننخدع. بل إستطعنا أن نبرهن على قدرتنا على إختيار الجانب المشرق من هذه العولمة، وهو جانبها الإنساني المتمثل في تقاسم الخبرات وإفشاء القيم الإنسانية النبيلة.
من هنا وجب قطع أي علاقة مع أخطاء الماضي، ففي مجتمعاتنا لم يعد لنا وقت لإعادة نفس الأخطاء، وتكرارها بنفس الأسلوب. نعم واقعنا صعب وعويص ويراد تسويقه غامضا، لكنه في الحقيقة بسيط وقريب وواضح. إن الأنظمة العربية أنظمة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك في تورطها المفضوح في إعاقة مجتمعاتنا عن التحرر والوثوب والتقدم، فمثلا ماذا حقق الرئيس الراحل بورقيبة والذي يعتبر في عيون أنصاره صانع ربيع تونس؟
مع إحترامنا للرجل فهو من عفن المناخ السياسي وكرس التبعية لفرنسا وفي عهده كانت تونس حقل لعدة تجارب من التعاضد إو الإشتراكية و التي فشلت و كادت تعصف بالدولة إلى اليبرالية والتي أيضا فشلت وكان ضحيتها مواطنين أبرياء في ما يعرف بأحداث 6 جانفي 1979 إلى أحداث الخبز وغيرها، أما المخلوع فتاريخه أسود و ضحاياه كثر في عدة مجالات من السياسيين فمنهم من سجن وعذب ومنهم من قتل والمحظوظ منهم عاش تقريبا عقدين و نصف في المنفى بالإضافة إلى رجال الأعمال الذي ضاعت أرزاقهم، دو أن ننسى مئات الآلاف من خريجي الجامعة ضحايا منظومتة التربوية المشئومة. فحين نقرأ لفلاسفة الأنوار، وحين نقرأ مقالة كانط عن التنوير؛ قبل قرنين ونصف، وحين نقرأ للكواكبي عن وظيفة الإستبداد وطبيعة الشعوب المستبد بها، وحين نطلع على مسار اليابان و كوريا الجنوبية، ندرك حجم الوقت الذي هدرته أنظمتنا من أجل كرسي من خشب أو من ذهب. وحجم الأخطاء التي إرتكبناها نحن بالاكتفاء بإلقاء اللوم على الفاعل الحقيقي. آن الأوان لنمزق حجب الخوف المسؤول عن حالتنا الفظيعة، ونقول لجميع المتنطعين والمتخاذلين : لستم منا. سنحترق لنضيئ ظلمة أبنائنا.