كنا أشرنا مرارا إلى ضرورة رسم استراتيجية عمل للدبلوماسية التونسية وتفاءلنا خيرا بنشر الاستراتيجية التي تم الاشتغال عليها من طرف الكثيرين من وزارة الخارجية والحكومة ورئاسة الجمهورية ولكن من الواضح أنه عند التطبيق تسير الأمور باتجاهات وتقاطعات يصعب معها رسم تمش واضح ولا نجد رابطا بين ما هو متفق عليه من أهداف واستراتيجيات تحرّك وبين ما يتم الاعلان عنه من تحركات ومواقف دبلوماسية متقاطعة مع الأهداف المعلنة.
فالدبلوماسية هي التسويق لصورة البلد وهي من تجلب الاستثمار وهي من تتخذ مواقف متجانسة ومتناسقة مع سياسات البلد. وليس خافيا على المطلعين بأن جني ثمار العمل الدبلوماسي يأتي غالبا بعد مدة والخشية هي أن نفاجئ بثمار عمل التحركات الدبلوماسية منذ 2014 بداية من السنة الحالية .
فليس خافيا التخبط وأحيانا العشوائية التي أشرنا اليها في مقالات سابقة وبلغت حدتها مع أداء السيد الطيب البكوش على رأس الوزارة حيث ترك إرثا يصعب تجاوزه في مدة وجيزة وما نتيجة عمله الحالي في اتحاد المغرب العربي إلا دليل إضافي على التوجه الإيديولوجي والإقصائي للرجل وهو ما يؤثر بشكل كبير على مصالح بلدنا مغاربيا وإقليميا ودوليا.
وأما الوضع الحالي فيغلب عليه التسيب والانتظارية والضبابية وأحيانا المواقف المتناقضة وهي من أخطر المواقف على الإطلاق ويكفي الرجوع لمواقف الأسابيع القليلة الماضية لندرك حجم ما لحق بدبلوماسيتنا من تداخل في الصلاحيات وتردد وضبابية.
- كان السيد وزير الخارجية قد أعلن بأن الزيارة التي قام بها وفد برلماني تونسي إلى سوريا ولقاءه كبار المسؤولين هناك، لم تكن بتنسيق مع السلطات التونسية، وأن ذلك التحرك كان من المفترض أن يكون بتنسيق مع الجهاز التنفيذي للدولة وبعلم أجهزتها ولما لا فى إطار دعم السياسة الخارجية الرسمية ولكن ذلك لم يحصل وذهب الوفد بطريقة لازالت مجهولة لدى الرأي العام وأقام الوفد في ضيافة جهات غير معلنة وأعلن عن مواقف داعمة بالكامل لبشار الأسد والميليشيات المسلحة الداعمة له والغريب أن البعض أعلن خلال وجوده بدمشق، وعبر قنوات تشجع على الطائفية والاقتتال، عن تصريحات غير ودية تجاه شرائح كبيرة من المجتمع التونسي تقف مع ثورة الشعب السوري المطالب بالحرية والعدالة والكرامة والسيادة.
كان من المفترض أن تتم مساءلة أعضاء الوفد ومعرفة الأهداف الحقيقية من الزيارة خاصة مع الاعلان عن بعث لجنة برلمانية تحقق في تسفير تونسيين متورطين في القتال مع أطراف النزاع المختلفة مثل جيش بشار وكتائبه والميليشيات الداعمة له وصولا الى المرتزقة من الدواعش والقاعدة وغيرهم.
ولكن تم الأسبوع الماضي استقبال عدد من أعضاء الوفد من طرف رئيس الجمهورية المسؤول الأول عن السياسة الخارجية للدولة الذي فاجأ الجميع بتصريح يناقض فيه ما قاله وزير الخارجية خلال نفس الأسبوع والذي جاء فيه بأن العلاقات مع سورية، وخلافاً لما يُروّج له، لم تنقطع أبداً.
وأما كلام البعض عن تفعيل العلاقات الديبلوماسية فهو غير مجدي وغير واقعي ومخالف للقرارات الدولية التي وافقت عليها بلادنا وكل ما يثار هو مجرد مزايدات سياسية مفهومة خلال الحملات الانتخابية ولكنها مضرة وغير بناءة خلال مرحلة الفعل .
فعلى أي أساس يتحدث السيد رئيس الجمهورية عن عودة العلاقات بعد تحسن الأوضاع وهو ويدرك بأن القرار أصبح الأن بين موسكو وأنقرة وليس في دمشق كما أن حجم المجازر والتدميريتزايد يوميا والتقارير الأممية والمنظمات الانسانية كلها تؤكد هذه الحقائق.
أمر آخر يؤكد الضبابية. فالسيد الوزير كان واضحا عندما أكد أن مصالح الوزارة لم تكن على علم بترتيبات الزيارة وأهدافها ثم يعلن الوفد أثناء لقائه برئيس الدولة أنه التقى بالقنصل العام لتونس في دمشق ولا يمكن لقنصل أن يجتهد في أمور مثل هذه دون إذن مصالح الوزارة أو الرئاسة أم أن هناك جهات أخرى؟ --- الأمر يحتاج إلى توضيح.....
- في آخر مارس/ آذار امتنعت تونس عن التصويت خلال جلسة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف على مشروع قرار يدين استمرار الانتهاكات المنهجية في سوريا ووصف القرار عمليات القصف على شرقي حلب بأنها ترقى إلى جرائم حرب، كما دعم جهود مساءلة مرتكبي الانتهاكات. وأدان القرار قصف النظام وحلفائه شرقي حلب السنة الماضية، الذي أوقع آلاف القتلى والجرحى من المدنيين، وانتهى بتهجير عشرات الآلاف إلى مناطق في ريفي حلب وإدلب. ووصف القرار عمليات القصف على شرقي حلب بأنها ترقى إلى جرائم حرب وكانت لجان ومنظمات أممية بينها مجلس حقوق الإنسان أعلنت عن مسؤولية النظام السوري عن ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين، وطالبت بإحالة تلك الجرائم إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. وفي نهاية العام الماضي تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع قرار يدعو إلى محاسبة مجرمي الحرب في سوريا وهو ما يعني أن بلادنا ملزمة باعتبارها وافقت على قرار الحمعية العامة ولكن الموقف من قرار مجلس حقوق الإنسان غير مفهوم وغير مدروس.
ولازلنا ننتظر توضيحا أو تبريرا لهكذا موقف الذي وضع تونس في موقف حرج أمام العالم وتأتي مجزرة الكيمياوي منذ يومين لتؤكد نوعية الجرائم التي ترتكب بحق الشعب السوري وضرورة تفعيل عمل لجنة التحقيق الأممية وفتح كل الأبواب أمامها لتتمكن من كشف الحقائق ثم محاسبة الفاعلين أيا كانوا فلا يعقل أن تكون بلادنا غير راغبة في معرفة الحقيقة وكشف المجرمين.
- وتم الأسبوع الماضي الإعلان عن إلغاء التأشيرة بين تونس وبوركينا فاسو خلال المنتدى الاقتصادي التونسي البوركيني وكنا طالبنا بوجوب التريث ومعالجة الموضوع بعقلانية وحكمة والحال أن التغطية الدبلوماسية التونسية موجودة منذ الستينات في باماكو عاصمة مالي وهي تغطي مالي والنيجر وبوركينا فاسو ومن غير المعقول ولا المفهوم ديبلوماسيا فتح سفارة في بوركينا فاسو وتجاهل النيجر مركز الثقل الحقيقي كما أن إلغاء التأشيرة سيسبب لبلادنا متاعب كبيرة مرتبطة بالهجرة السرية وتجارة المخدرات وتسهيل عمل الجهات التي تسعى إلى تخريب المسار الديمقراطي في بلادنا .
وكان من المفترض انتظار استقرار الأوضاع السياسية في هذا البلد واتضاح صورة التعاطي مع المجموعات الإرهابية في المنطقة ويكون القرار بالتنسيق مع الأشقاء في كل من ليبيا والجزائر كما أن بلادنا غير مهيأة لمواجهة تحديات دخول بعض العناصر تحت لافتة الأفارقة، وما يتبع ذلك من تحديات أمنية داخلية والتزامات دولية مرتبطة بالاتفاقات حول الهجرة نحو أوروبا وغيرها. كما أن هذه الخطوة ستزيد الأعباء الأمنية على جيراننا خوفا من أن تتحول المنطقة الى معبر للمخدرات بين أمريكا اللتينية واوروبا وسيكون من الصعب بل من المستحيل ايقاف الاتجار بالبشر والمخدرات. وأعتقد أنه يتعين على البرلمان أن يسأل السيد الوزير عن هذا التمشي، ولماذا هذا البلد بالذات والحال أن إمكانية الانفتاح والتعاون مع عدد من البلدان الإفريقية الصاعدة واردة جدا، ويمكن الاستفادة والاقتداء بأشقائنا في المغرب الأقصى في هذا المجال ولا يخفى تواجد عدة جهات مناوئة للمسار الديمقراطي في بلادنا وهي تنشط بقوة في بوركينا فاسو.
إن استراتيجية تونس بعد الثورة هي الانفتاح على إفريقيا لما تمثله من عمق استراتيجي وسوق واعدة للاقتصاد التونسي ولكن في اطار شراكة حقيقية تعود ثمارها بالمنفعة على الجميع فضلا على مزيد تدعيم التنسيق والتعاون الأمني والعسكري لمقاومة الارهاب ومواجهة خطر انتشار الجماعات الارهابية في منطقة الساحل والصحراء وذلك من خلال وضع استراتيجية مشتركة بين دول المنطقة للقضاء على هذه الظاهرة التي باتت تهدد استقرار المنطقة.
كما يجب دعم اتفاقية التبادل الحر مع المجموعة الاقتصادية والمالية لغرب افريقيا التي تعد من أهم الفضاءات في القارة السمراء وتضم كلا من النيجر و بوركينا فاسو والسينغال والطوغو والبنين والكوت ديفوار وغينيا بيساو وذلك لما يمثله الانضمام الى هذا التكتل الاقتصادي الاقليمي من آفاق واعدة للاقتصاد التونسي خاصة أن بلادنا تتوفر على خبرات فنية هامة في مجالات التصنيع والتكوين المهني والتعليم والصحة يمكن أن تقوم بدور أساسي في بلورة شراكة وتعاون حقيقي في كافة المجالات الاقتصادية.
ونذكر هنا بمبادئ وأهداف السياسة الخارجية التونسية المعلومة حتى نجعلها عقد الشراكة بين ما نسعى لتحقيقه والخطوات التي نقوم بها. حيث تستند السياسة الخارجية التونسية إلى جملة من المبادئ التي تترجم حرص تونس كدولة محبة للسلام ومتعلقة بالشرعية الدولية على تقوية أسباب التفاهم والتسامح والتضامن بين الدول والشعوب وإضفاء مزيد من العدل والديمقراطية والتوازن في العلاقات الدولية وتعميم الأمن والاستقرار والرخاء والتقدم لفائدة الإنسانية قاطبة.
وتتلخص هذه المبادئ في ما يلي:
• التمسك بالشرعية الدولية واحترام مقتضياتها وقراراتها.
• التعلق بالسلم وتغليب منطق الحوار والتفاوض والوسائل السلمية كسبيل لفض الخلافات والنزاعات.
• تطوير العلاقات الدولية في كنف الاحترام المتبادل والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى
• نصرة القضايا العادلة.
• المساهمة في كل جهد وعمل جماعي لخدمة السلم والأمن والاستقرار والنهوض بحقوق الإنسان وتحقيق الرخاء والتقدم لفائدة الإنسانية قاطبة.
وبالاستناد إلى هذه المبادئ الثابتة في السياسة الخارجية لتونس، يجب أن تتحرك الدبلوماسية التونسية من أجل الذود عن مصالح الوطن وتأكيد حضوره وإشعاعه في الأبعاد التالية:
• البعد المغاربي : دعم اتحاد المغرب العربي وتفعيل هياكله وتنشيطها في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية باعتباره خيارا استراتيجيا والإطار الأمثل للبلدان المغاربية لتحقيق اندماجها الاقتصادي وتوثيق علاقاتها مع التكتلات والتجمعات الأخرى ولاسيما منها الاتحاد الأوروبي.
• البعد العربي : دعم التضامن العربي وتعزيز وتطوير العمل العربي المشترك في مختلف المجالات ودعم التكامل الاقتصادي بين الدول العربية.
• البعد الإسلامي : تعزيز وتطوير العلاقات مع الدول الإسلامية في مختلف المجالات.
• البعد الإفريقي : تعزيز وتطوير العلاقات مع دول القارة الإفريقية في مختلف المجالات ودعم الاتحاد الإفريقي باتجاه مزيد من التضامن والتكامل بين الدول الإفريقية.
• البعد المتوسطي : دعم المسار الأورومتوسطي وتطويره باتجاه تعزيز علاقات الشراكة والتضامن بين دول الضفتين الجنوبية والشمالية للبحر الأبيض المتوسط في المجالات السياسية والأمنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
• البعد الدّولي : العمل باتجاه تصحيح الاختلالات القائمة في توازنات العلاقات الدولية وتكريس مبدأ التكامل في المصالح والشراكة المتضامنة وتركيز الجهد الدولي على معالجة القضايا والمشكلات ذات التأثير على استتباب السلم والأمن والاستقرار وتحقيق التنمية