حقيقة رُبّ ما يُقال في كوليس مدة ثوان، أفضل وأوضح مما يُقال في البلاتوهات عدة ساعات. ولعل واقعة الحال خير مثال على ذلك. وأي دليل أكبر مما وصل إليه الصحبي عتيق، ويعاضده في ذلك الطاهر بن حسين، تلخيصا للمشهد برمته منذ 2011 إلى الوقت الحاضر. البلاغة في الإيجاز وفي الكواليس أيضا. المنظومة القديمة قد عادت ولا أحد قادر على فعل شيء لها.
وعندما يُقرّ بهذا الصحبي عتيق بالذات، فإن ذاك ما -قد يكون- استقر في أذهان النهضة أو على الأقل بين قياداتها العليا. دعنا من البحث عن مسؤوليتهم في ذاك، إلا أن ما يهمنا هنا هو التسليم -كما يتضح- من كلام أحدهم بأنهم غير قادرين مستقبلا على فعل شيء. فلتهنأ المنظومة القديمة إذن. هنا خرجنا من أهداف الثورة ومطالبها وكل الشعارات الجميلة أو الوعود الانتخابية أو حتى مجرد التمنيات المساوية للأوهام، إلى التغاضي عن الفساد، وهو ما يؤدي في آخر المطاف -كره من كره- إلى الشراكة معه في الريع.
الشاهد الثاني في لقطة الكُوليس التلفزي هو الطاهر بن حسين الذي بدا ناصحا نصوحا، وأن الأمور ستستقيم وينصلح حال البلاد بسجن ما مجموعه ثمانمائة فرد فقط بين قضاة ورجال أعمال وبوليسية. هنا لم ننس تلك الأيام التي كان يحيط بها نفسه بنقابات البوليس، ومازال الفيديو حول إرشاء البعض منهم متاحا على الانترنت. فما معنى أن يدعو اليوم في كوليس ثوري إلى سجن خمسمائة منهم؟ هل هي حصيلة تجربته معهم؟ أم الندم على ما ساهم به من تفريط في فرصة ثورة لا تتكرر؟ أم غير ذلك؟
الأهم من ذلك أن الرجلين اتفقا -من حيث لم يصرحا حرفيا- بأن هناك انسدادا خانقا. ومن خلال تسليم الصحبي عتيق بعودة المنظومة القديمة، وبقطع النظر عن مسؤولية النهضة في ذلك عجزا أو قبولا، فإن الطرف الجديد على مشهد ما قبل الثورة، هو النهضة ليس إلا. والعجز الذي يُقرّ به الصحبي عتيق يساوي تعايش حركته تماما مع المنظومة القديمة حتى كأنها رديف لها أو حتى جزء فيها، تستخدمها في المهمات الصعبة، فترسلها في فترات الشدة لتفكيك الاعتصامات وتمييع التوترات وإعطاء الوعود والأوهام. وفي هذا المجال تنتظر وزراءَ النهضة القليلين أعمالٌ كبيرة على كل الواجهات.
والحقيقة أنهم ليسوا وحدهم في الخدمة، وإنما كلّ منخرطون بشكل أو بآخر، حتى وإن لم يعترفوا أو أنكروا، وإنما كل حسب جهده وحسب قوّته وحجمه، من "أكبر قوة في البلاد" التي تضم جميع الثوريين وما جاورهم، إلى آخر آخرهم ولا أستثني أحدا. البعض بسبب الملفات والبعض بمفعول الأعطيات والبعض بالتهديدات والبعض بالسفارات، والكل في طابور مستقيم. بئس ما يفعلون جميعا. غير أن ما هو ثابت أن المنظومة القديمة التي -وهي في عفوانها- لم تستطع أن تتفادى ما حدث ذات سنوات مضت، لن تتمكن من تأجيل مثله حتى ولو استخدمت السحر والمخدرات.