حين نتحدث عن الدولة علينا أن ندرك جيّدا أن الدولة، هي السلطة والشعب والأرض، وكل إعتداء على مكون من هذه المكونات هو إعتداء على الدّولة، فمن حق الشعب أن يحمي أرض دولته بما حوت، ومن حقه أن يعتبر أي إعتداء عليها إعتداءا عليه، ومن واجب السلطة حماية الشعب والأرض وعليها أن تعتبر أيضا أن أي إعتداء على واحد منها إعتداءا عليها، علينا جميعا أن نتفق على مفهوم مصطلح الدولة ليلزم كل منا حدوده في حمايتها وأن يعمل كل منا على أن تظل الدولة قائمة لأن سقوط أحد مكوناتها سقوط للجميع في دائرة الفوضى، وعندها نكون قد خرّبنا بيوتنا بأيدينا وأيدي المتربصين بهذا الوطن الدّوائر.
الإحتجاجات المتتالية التي تهز بعض المناطق من بلادنا يمكن النظر إليها في إطار محورين رئيسيين، المحور الأول هو طبيعة هذه الناس المنتفضة، ودوافعهم للإنتفاض، وطبيعة مطالبهم ومدى قابليتها للتحقيق، ومدى موضوعيتهم في تشخيص الواقع وهل أنهم واعون بمآلات هذه الإحتجاجات مستقبلا وهل يقدرون على حمايتها من الإختراقات الداخلية والخارجية، كي لا تنقلب المطالبة بحقوق إلى خسارة وطن بأكمله.
المحور الثاني في معادلة الإحتجاجات هي الحكومة، ولنقل السلطة، فالدولة في النهاية هي أرض وشعب وسلطة، والحكومة هي الوارث المفوّض للسّلطة المتخلّية منذ الإستقلال إلى يوم الناس هذا والوارث كما له حق التصرّف في ثروة مورّثه فهو أيضا عليه واجب خلاص الديون المترتبة عليه، ومن سوء حظّ حكومات الثورة منذ 11 جانفي 2011 إلى اليوم، أنها لم تُورّث إلا الديون المتراكمة منذ الإستقلال والحيف والضّيم الإجتماعي وهيكلا من العظام الهشة لدولة قيل أنها حديثة، لذلك فإن المسؤول السياسي الذي يدير دفّة الحكم في الدولة بسلطاتها الثلاثة عليه أن يدرك ذلك جيدا، وأن تكون قراراته السّياسيّة متناغمة مع موروثه خاصة السّلطة التنفيذية الوارث المفوّض لسلطة الدولة.
هل من حق المناطق المحرومة أن تطالب بالتنمية، الكل يقرّ بذلك، والكل يقول أنه يؤيد مطالبها المشروعة بما في ذلك الحكومة، ووراء كل موقف دوافع سياسية، إما إنتخابية أو إمتصاصا مؤقتا للغضب، لكن لماذا الآن وليس بالأمس، هنا تبدأ التأويلات وككل المواقف فإنها بخلفية سياسية ، هنا تبدأ لغة الأطراف والرّكوب والنّزول، لكن في النهاية وبعيدا عن الأجندات السّياسية والوسائل الإعلامية المطوّعة لخدمة هذا الشّق أو ذاك وبعيدا عن الأهداف الفئوية ، فإن السّلطة بأذرعها الثلاث مدعوّة للإجابة عن أسئلة المواطنين المنتفضين بكل الأدوات السياسية والتقنية والقانونية، بإعتبارهم جزء غير محايد من الدولة لا يجب معارضته بل التّفاوض معه كواحد من الورثة الشرعيين للدولة، مفاوضة يكون فيها الغلبة للعقل والحكمة لا مفاوضات طرشان.
لا أظن أن عاقلا من المناطق المحرومة يمكن أن يقول أن الحكومة أو السّلطة عموما يمكن أن تغيّر وضعها بين عشية وضحاها، كما لا يمكن لعاقل أن يقبل أيضا في الطرف الآخر أن ترصد أموالا طائلة للعناية بالحدائق والحيوانات والتماثيل والساحات والأعلام العملاقة ومحطات النقل النموذجية في المناطق المترفّهة تقليديا منذ الإستقلال، ويطلب من المناطق المهمشة تقليديا أن تصبر وتحتسب، وتقف لتصفّق إن لزم الأمر كما كان يطلب منها دائما.
ما يحدث اليوم في بلادنا يجب أن يوضع له حدا، على الحكومة أن تحسن ترتيب أولوياتها، بطريقة تكسب بها ثقة المناطق المهمشة والمحرومة، فنحن الآن لسنا بحاجة لكماليات العيش وجزء مهمّ من الشعب يفتقد لأبرز مقومات حياته اليومية، ومن ناحية أخرى لا يجب علينا ونحن نحاول الإرتقاء بالمناطق المنكوبة أن نتسبب في نكبة بقية المناطق كي لا ندخل في معادلة إقتسام الفقر .
أعود لأقول أنه على السلطة أن تجيد ترتيب أولوياتها، وأن تدرك أن منسوب الوعي عند المجتمع بدأ يرتفع، وما كان متاحا للزعيم أو لوريثه لم يعد كذلك الآن، ولو لم يكن كذلك ما كانت 11 جانفي 2011 لتذكر في كتب التاريخ، وأن الحدائق والتماثيل يفترض أن تكون نتيجة لرفاه إقتصادي وإجتماعي، لا سببا في تحقيقها، وأن السلطة حين تعجز عن إرساء البنى التحتية الفكرية واللوجيستية اللازمة لإرساء سلوك حضاري فإنها ستكون أعجز في إرسائه بحزمة من القوانين، فالمحافظة على النظافة تتطلب إيجاد النظافة أولا، والمحافظة على النظام يتطلب إيجاد النظام أولا، وإحترام الناس للقانون يتطلب أن تحترم الإدارة القانون في المقام الأول، وعملية الإيجاد الفكري واللوجيستي من مهام الدولة وليست من مهام الشعب فالمناهج فالبرامج الإستراتيجية التربوية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية ترسمها الدولة لا يرسمها الشعب.