المقامة البُولِيَّة…

Photo

قلتُ لأبي المقعار: "هلاّ رويت لي من بعض أخبار افريقيّة وأحوال أهلها، فقد سمعت عنهم العَجَبَ العُجَابْ، وأنّهم، شعبا وحكومة، من أكثر خلق الله حبّا وتعلّقا بوطنهم، ومن أشدّهم حرصا على مصلحة البلادْ. وقد قال شاعرهم واصفا هذا الشعورْ، بدون تكبّر ولا تبجّح ولا غرورْ:

أُحِبُّ البلاد كما لا يحبّ البلاد أحدْ، صباحا مساءا ويوم الأحدْ"...

فأجابني أبو المقعار قائلا: صدقت فيما تقولْ، وإليك، تدعيما لما أوردته، قصّة الخبَّاز "بُولْ" Paul، القادم إلى افريقيّة من "الأبعاد"، ممّا يلي البحر من بلاد "الڨُولْ" La Gaulle.

فلقد خرجت ذات صباح، أجوب الأزقّة والشوارع والبطاح... أبحث فيها عن مكان أهنأ فيه وأرتاحْ، من صخب المدينة ومن العراك ومن الخصام ومن الصياحْ... واشتهيتُ "الكُرْوَاسُونْ" croissant، وكنت على مقربة من "باب سعدونْ"، فاستشرت أحد المارّة، فدلّني على مكان ليس بالقريب، يُكْرَم فيه السائح والغريب، ولا يوجد فيه على حدّ قوله "خلائق" ولا "جْبُورة" ولا من به "سلوك مُريبْ"، زدْ على ذلك اشتهاره بكرواسونْ يشفي الغليلْ، ويبعث الصحة في الجسم العليلْ، إضافة الى الحُظْوة والمكانة الراقية لآكله إذا أثبت ذلك بالدليلْ، و"السِّلفي" هناك خير دليل!

ركبتُ سيّارة نقل صفراء، كانت، فيما مضى، تُدْعى "لُوَّاجْ"، وراح سائقها يسابق الريح والعجاجْ. وما أن وصلتُ ومن هذا "النعشْ الطائر" نزلتُ، حتى رفعت بكلتا يديّا للسماء شاكرا الله على السلامة.

وجدت نفسي في بلدة يقال لها المرسى... وما أدراك ما المرسى! مدينة يُشدّ إليها الرّحالْ، ويحلو فيها الانتجاع والتجوالْ. ومن مآثرها أنّ علية القوم اختاروها، منذ زمن البايات، دار مقام، وأنّ من بين قاطنيها فخامة المقيم العام، أعزّ الله دولته العليّة، وأنار طلعته البهيّة وجعل من حظوره بين ظهرانينا حِرْزا واقيا من كلّ بليّة ورزيّة.

وبينما أنا منهمك في فكّ رموز خريطة البلادِ، كما يفعل السائح العادِي، إذْ بصوت انثوي شادِي، يخرجني من ذهولي ويعيدني إلى دنيا العبادِ…

"سيّدي، سيّدي، يبدو أنّك ضائع محتار... هل أدلّك عمّا يروق في هذه البلدة لكلّ الزُوّار؟"

نظرتُ إلى مصدر الصوت الشجيّ، فإذا بها حسناء تلبس "روبْ مِينِي".

وقبل أن أجيبْ، بادرتني الشقراء بنبرة فيها ترغيبْ:

"هيّا اتبعني، فالمكان من هنا قريبْ، ومن حسن طالعك، أنّ اليوم فيه تدشينٌ وترحيبْ".

وإذا بنا أمام محلّ كتب على واجهته بالخط العريض "بُولْ" Paul.

صدمتُ عندها، وداخلتني حول دليلي الجميل الشكوك والظنون، وتذكّرت "خَطِيَّةً" حديثة عهدٍ، صدر فيها قانونْ. فمن بال في هذه البلاد خارج بيته، فعليه غرامة تبلغ من الدنانير ستّونْ. عندها خشيت على نفسي ومالي، وخفت حتى من حجز الماعونْ! وسألتُ الشقراء، بلهجة الفُطَناءْ:

"أهي المكيدة؟"

فأجابتني بنبرة فيها دلال و"تنهيدة":

"ما تخافشْ! يعطيكْ عصيدة!" (وهي أُكْلة تُطْبخ في هذه الربوع بمادّة الطحين).

فهمتُ بعد ذلك أنّ "بولْ" هو خبّاز الفرنجة الشهيرْ، يَخبز خُبْزه من أجود أنواع القمح والشعيرْ. جاء لهذه الديار البعيدة بعد أن سبقه عند علية أهلها صِيتُ صَنْعته الفَريدة. وقيل أنّ الخاصّة في هذه البلاد تُكنّ حُبّا جَمّا للفرنجة من دون بقيّة سكّان البلدان والقارّات، فتقلّدها في اللغة وفي الملبس وكذلك في الكثير من العادات، وهي تتَّبِعها بفعل وتأثير ذلك الحبّْ، حتّى وإن دخلتْ جُحْر الضبّْ. وقد أفرد ابن خلدون، وهو ابن البلدْ، لهذا الأمر، فصلا من فصولِ ما حبّر منذ قرون وكتبْ، اذْ تحدّث عن العلائق بين الغالب وبين من على أَمره غُلِبْ.

سلّمتني الشقراء إلى من هي أشقر منها شعرا وأقصر منها هنداما، وكانت جميلة صاحبة وِطابَيْن1 تزيغ فيهما، من فرط ابرازهما، العَيْنينْ، فأجلستني الحسناء ذات "المينيِّ" في مكان قصيّ، وكدتُ أنسى نفسي، اذْ زاغ بصري... فاستغفرتُ، بعد ذلك، ومن الشيطان استعذتُ، وتذكرت أنّنا في شعبان الأغرّْ، وأنّ الأجدر بالمؤمن غضّ البصرْ. وطفقتِ الحسناء، تغدق عليّ بما لذّ وطابْ، وأنا، عينٌ على "الكراوسون" وعينُ على الوِطَابْ.

وبينما أنا على ذاك الحال، إذ انطلقت جلبة عند باب الاستقبالْ. سألتُ الشقراء، وبالكاد أجابتني بأنّ لحظة التّدشين قد حَلّتْ، وبأنَّ الوزيرة قد أطلّتْ، يرافقها السّفيرْ، وجمع من الأعيان غفيرْ، وممن له باعٌ في السياحة، وفي الفلاحة، ومن هو مُفاخِر بتوارث مهنة صناعة أنواع الطّحين الفاخر…

تكلّم السفيرْ، فعمّ الصمت وسكن النفيرْ، وذَكَر بكلّ خير، هذا البلد الصغيرْ، الذي أذهل العالم ودوّخ الكبيرْ، ومن يحبو على الحصيرْ. كيف لا وهو لا يملك كجيرانه غازًا ولا بترولْ، ومع هذا فهو شعب قد شيَّد حضارة مرّت عليها الأعوام والقرون، وليست في تقهقر أو مهدّدة أن تزولْ، والدليل على ذلك، ما نراه في الآفاق من "ياجور" ومن "كَنْتُولْ"، فهو شعب يحبّ البناءْ، ويعشق الغناءْ، وثروته العظيمة فيما يفرزه من مادّة شَخْمَاءْ. وصفّق الجميع، وصَاحَبَ التصفيق، على وجوه القوم، بَسْمة بلهاءْ.

وتكلَّمت الوزيرةْ، وكانت هي الأخرى شقراءْ، فأثنت على السفيرْ وعلى دولته، وعلى ما يربط بين الأمّتين من روابط صمّاءْ. وباركت للخبّاز "بولْ" وأنّه لأمّته في هذه الدّيار خير مُبَشِّر ورسولْ. وأنهتْ خطابها ذو القيمة، بجملة عبقريّة رصينة: "أنتم عليكم الخبرة، ونحن علينا الفَارِينَة"…

ثمّ انفضّ الجمع، وسط قهقهة تُذْهب السّمْع. وعادتْ إليَّ مُضَيِّفَتِي الشقراء ذات الوِطَابْ، بكُتيّبٍ مجَلّدٍ يضمّ بين دفّتيه فاتورة الحسابْ. وما أن قرأتُ المَجْمُولْ، حتّى صُعِقتُ وخلْتُ نفسي كمن يُخرَجُ على الأعناق وهو مَحْمولْ... فالمبلغ المطلوب يساوي خطيّة من باغتوه في الشارع وهو يَبُولْ. ناديتُ الشقراء وسألتها:

"ما هذا المبلغ الكبير؟ هلْ أنا من دعوتُ الوزيرة والسفيرْ ومن معهم من جمع غفيرْ؟"

فأجابت بدلال:

"لا يا "مِيسْيُوهْ" هذا ثمن ما استهلكتُمُوه... وهذا ما يدفعه في العادة الأكابرْ".

فدفعتُ ما عليَّ عن يدٍ وأنا صَاغِرْ.

وما أنْ خرجتُ من هناك حتّى فتحتُ السّروال وطفقتُ أبولْ على الجدار الذي يحمل يافطة "بولْ"، فجاءني شرطي وهو يلوّح من بعيد بدفتر الخطايا، فضحكتُ له ضحكة تتطاير منها الشظايا، وقلتُ له:
"دعك يا هذا من الدفتر، فقد دفعتُ مُسبقا خطيّة البولْ، ولك أن تسأل الشقراء الوَطْباءَ، فعندها الفاتورة، وهي شهيدة على ما أقولْ... لقد دفعتُ لِبولَ ستّون، وبذلك لم أخالفَ نصَّ القانون"...

وبتُّ ليلتي تلك في مخْفَرِ "باب سعدونْ"…


1-امرأَة وَطْباءُ: كبيرة الثَّدْيَيْنِ (لسان العرب)

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات