أنا فقير والحمد لله…

Photo

أنا فقير والحمد لله، بل أستطيع أن أقول دون فخر أو تبجّح إنّني فقير جدّا، وهذا من فضل ربّي… مع ذلك أنا متواضع جدّا ولا أتباهى ولا أنظر إلى الأغنياء تلك النظرة المتعالية، بل أتعامل معهم بكلّ لطف ومرونة وإنسانيّة كي لا يشعروا بالنقص، لا أتأخر عن مجاملتهم أو مواساتهم أو عن تقديم يد المساعدة لمن احتاجها منهم بكلّ أريحيّة، علّمت أبنائي بأن يتعاملوا مع أبنائهم دون تكبّر، لأنّنا كلنا بشر متساوون ولسنا أفضل منهم، ربما كانت ظروفهم صعبة قليلا وكنّا محظوظين أكثر منهم لا أكثر ولا أقلّ ، نعمة الفقر التي نعيش فيها ليست في الحقيقة ميزة شخصية اكتسبناها، وإنّما كلّ ما في الأمر أنّنا ورثناه أبا عن جدّ وجيلا بعد جيل منذ عشرات وربما منذ مئات السنين، أمّا هم فلسوء حظّهم انحدروا من سلالات أخرى تركت لهم ذلك الحمل الثقيل…

رئيسي في العمل لم يكن يرتاح إليّ في البداية، كنت أشعر أن في نظرته إليّ شيئا من الحقد الطّبقيّ وكنت أتفهّم ذلك وأعذره، فأنا والحمد لله أنعم بالخبز العربيّ السّاخن واللّبن والرّايب والمحمّصة والخبّيزة ، في حين أنّه كتب عليه الكافيار ولحم الضّأن وبيتزا غلال البحر التي لا تغني ولا تسمن من جوع، لكنّني بتواضعي وتعاملي معه دون قفّازات أثبتّ له أنّنا كلّنا أولاد تسعة وليس عليه أن يخجل أبدا من وضعه الاجتماعيّ.

جلسنا مرة نتحدّث وكنت أهمّ بأن أشتكي إليه بعض الأشياء التافهة التي تسبب لي إزعاجا طفيفا من حين لآخر مثل غلاء الأسعار ومشكلة النقل كل صباح والحافلة الجافلة ومعلوم الكراء الفاحش والدّيون والقروض وأمراضي المزمنة والبطالة وغيرها من الأشياء التافهة التي نتدلّل بها نحن الفقراء، لكنّني خجلت من نفسي حين فتح لي قلبه وحدّثني عن جحيم المعاناة التي يعيشها طيلة اليوم ولمت نفسي كثيرا أنني فكرت مجرد التفكير فيما فكرت فيه، أخبرني كيف أنّه إذا ربح صفقة ب500 مليون مثلا فعليه أن يذهب برجليه إلى القباضة لكي يدفع منها 30 مليون من فلذات كبده، مليونا يحكّ مليونا للدّولة لكي تنفقها على الطبقة المحظوظة، طبقة الفقراء، فشهقت وكدت أنهق، ونسيت ال500 مليون التي يكسبها ولم يبق في ذهني سوى الثلاثين التي يدفعها…

ورثيت لحاله المسكين… حدثني كذلك عن ابنه الذي يدرس الطب في كندا على نفقته وعليه أن يرسل إليه كل شهر 5آلاف دينار ليأكل بها الخبز الحافي، لكي يتخرج بعد ذلك ويداوي أبناء الفقراء منّا مجانا، فزاد من خجلي ونقمتي على نفسي وعلى طبقتي الجاحدة، وحدّثني كذلك أنّه لفرط أشغاله ليلا نهارا يعود كل يوم إلى بيته منتصف الليل وينهض قبل الفجر فكان دائما يجد زوجته نائمة ولم يجد الوقت لينجب ولو سنجابا صغيرا، في حين أنّنا نحن الفقراء نملأ الشوارع والساحات والميادين والمستشفيات والملاعب والسجون بجيوش من القرود النّطّاطة، بفضل ما وفرته لنا البطالة من وقت ثمين لا يشترى بالمال ولا بالباذنجان…

حدّثني عن كلبته "جاني" التي تعيش حالة اكتئاب منذ شهرين بسبب قتل الشرطة لحبيبها كانيش نابل ( نسيت اسمه العزا)… سألته إن كان يدفع الزّكاة، فغضب من سؤالي ولاحظت أنه جرح جرحا عميقا حتى كادت عيناه تدمعان وأجاب: يا أخي نحن ندفع كلّ يوم زكاة الرشوة من إدارة لإدارة، بحجة أنّ المشروع مخالف للمواصفات أو لم يخضع لقانون الصفقات العمومية أو فيه شبهات الفساد والتهرب الضريبي وكل تلك الأشياء البيروقراطية المعطّلة… فخجلت من سؤالي وندمت كل الندم وكدت أقبّل رأسه على تسرّعي وقلّة ذوقي…

شعرت كم أنّ هذا العالم قاس وغير عادل… وقرّرت أن أسخّر ما بقي من حياتي للدفاع عن قانون المصالحة لأنّ تونس لكلّ أبنائها ولا يجب أن نستأثر نحن الفقراء بخيراتها في حين يعيش إخوتنا الأغنياء كلّ تلك المعاناة ويموت الكثيرون منهم كلّ يوم في صمت بين البنوك والشركات والنزل والمطارات والفيلات الكبيرة الموحشة القاسية …

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات