من يحكم تونس وكيف يحكم؟

Photo

يقول أحد أكبر الإستراتيجيين الأمريكيين :"في الأنظمة الديمقراطية يجب أن يكون كل من صانعي القرار والشعب مقتنعين بمستوى وجودة السياسة أوالإستراتيجية. ويجب أن تكون الإرادة الوطنية مبينة ومدعومة على الدوام بالتعبيرات العقلانية المستمدة من منطق مقبول ومقنع، يشرح الغايات والطرائق والوسائل، وجواب صادق لا لبس فيه عن السؤال، لماذا هذه الإستراتيجية أوالسياسة ضرورية؟ " كيف يمكننا نحن كتونسيين أن ننظر إلى صناعة القرار ببلادنا؟ هل يمكن الآن تفسير ميكانيزمات الحكم بتونس؟

ففي الوقت الذي نقض فيه مجموعة من قضاة الولايات المتحدة الأمريكية قرارا رئاسيا لأقوى رئيس في الكون، ويذعن هذا الرئيس لقرارات المحكمة رغم مماحكاته اللفظية والتعبيرية. وفي الوقت الذي تقدم فيه رئيس وزراء فرنسي سابق بالإعتذار للشعب الفرنسي عن أخطاء أخلاقية حسب تعبيره، نعيش نحن في تونس على أنغام، عاش الرئيس وعاشت قراراته و حتى وإن كانت غير ديمقراطية، بلحن سمج وأصوات رديئة.

نحن الآن أمام آليتين لمراقبة وتصحيح أخطاء الحكام، في الولايات المتحدة الأمريكية يتم نهج الآلية القانونية والإدارية، وفي فرنسا يتم إتباع الآلية الإعلامية والشعبية، في حين أن تونس، وإن غابت عنه الآلية الأولى، أي آلية القانون والإدارة وذلك حسب رأي بغياب الإرادة السياسية لتشكيل المجلس الأعلى للقضاء ومن خلاله المحكمة الدستورية لتراقب السلطة التنفيذية وقراراتها وتطابقها مع الدستور،أما الآلية الثانية فهي غائبة كالأولى وخاصة في الإعلام المرئي والمسموع في القطاع العام والخاص، بإستثناء بعض الأصوات الإعلامية في الصحف الإلكترونية رغم قلتها، فقد بح صوتها وجف قلمها وهي تفضح فسادا مستشريا من قمة الحكم إلى قدمه. ولا أحد يحرك ساكنا أو يصدر موقفا أو يفعل قانونا.

الدستور نص محنط إذن، لا يتم تحريكه إلا إذا حركه الرئيس أو السلطة التنفذية عموما لصالحها، جميع نصوصه مجمدة، وخاصة المتعلقة بالتوازن الجهوي والعدالة الإجتماعية وحق الشغل و الكرامة والثروات الطبيعية والحكم المحلي وغير دليل على ذلك غياب الإرادة السياسية لإجرائها و منها دفع لرئيس الهيئة المستقلة للإنتخابات للإستقالة، أما ما يفعل من الدستور إلا ما يتعلق بنصوص الرئيس و الحكومة.

وأما الترسانة القانونية، الجنائية والمدنية لا تنفذ إلا في المستضعفين والفقراء والبؤساء والفاسدون يصولون ويجولون في البلاد. هكذا أصبح النظام السياسي بتونس، بإعتبار أن الدولة لا تقوم إلا على أساس الولاءات و التسويات وهذا ما يعمل عليه الحزب الحاكم وعسكر النظام القديم بتشويه هيئة الحقيقة و الكرامة والعمل على تعطيلها بشتى الطرق، وفي المقابل الترويج لقانون المصالحة والسعي لفرضه إعلاميا و سياسيا بشتى الطرق رغم هناته، ويتعرى هذا التمشي أمام تواتر أخبار معاقبة وتصحيح أخطاء كبار حكام وقادة العالم.

ساركوزي تم تقديمه عدة مرات للقضاء لمساءلته عن مصادر تمويل حملته الانتخابية الأخيرة، و رئيسة كوريا الجنوبية تودع السجن بسبب شبهات رشوة، وقبلها رئيسه البرازيل، في حين أن أموال تمويل اللأحزاب ومرشحي الإنتخابات الرئاسية لم يتم للآن إرجاعها للخزينة العامة للدولة. وأما النظام فحين يحرك أعلامه المأجور للنبش في ثروة أحد خدامه الأغبياء، فهو يحركها للإنتقام فقط ومعاقبته، وليس لتفعيل القانون بإعتباره يسمو فوق الطبقات والأشخاص والمؤسسات.

فماذا بقي في دولة دستورها لا يتحرك إلا بأوامر رئاسية سامية؟ ما دور الحكومة، والبرلمان،؟ وما دور القضاء، ما هو دور الأجهزة، من إستخبارات وأمن وإستعلامات؟، هل يمكن حقا لأجهزة ولمؤسسات لها كل هذه الحشود والجنود أن تخفق في إقرار العدالة؟، وفي توفير الأمن للمواطنين، وتفعيل القانون؟. فلماذا هي قائمة أصلا لتحصين المنحرفين والشواذ والمجرمين و الفاسدين و ناهبي المال العام، وتأديب الشرفاء والوطنيين والمجتهدين والكفاءات؟

بل أحيانا وقد عشت شخصيا بعض هذه الهواجس التي أصحبت للأسف حقائق معيشية وواقعية لما يقرب نصف قرن، والمحزن أنها متواصلة بعد الثورة، أتساءل هل فعلا أعيش في بلد أو دولة أو وطن، أم أعيش في ظل عصابة منظمة لها شكل دولة، إغتصبت بلدا وسرقت وطنا و إستعبدت شعبا؟

فما يشوش على الباحث قدرته وإمكاناته تفسير قرارات الحكام بتونس، هو أنها لا تخضع لأي معيار مؤسساتي معترف به، كما يمكن إستشرافها في النماذج النظرية للسياسة، وهي النموذج العقلاني، والنموذج المؤسساتي، والسياسة الحكومية. فالرئيس سواء في خطبه أو في المشاريع التي يطلقها لا أثر له، تختفي مفاعيل مدلولات خطابه، ومضمون مشاريعه بمجرد ما ينهي خطبته. تحضر صورته الورقية أو التلفزية ويغب روح خطابه ومضمون مشروعه. فمثلا خطابه الأخير وعوض بث الطأمنينة في قلوب الشباب وتقديم أسماء للفاسدين مثلا أو الدعوة لحوار وطني جامع للخروج من الأزمات المتلاحقة منذ حكم حزبه النداء، و من المآزق الإقتصادية و السياسية، هدد الشعب بعسكرة مناطق إنتاج الثروات الطبيعية، وإعادة هيكلة الداخلية و ذلك بإعطاء صلاحيات أوسع للولاة أي صلاحيات أمنية، فهل قدرنا معالجة مشاكلنا بطرق أمنية لا بقرارات و مشاريع تنموية؟

من هنا يمكن وضع إستراتيجية علمية لفهم أسلوب الإدارة والحكم بتونس. حيث تتفرع الإحتمالات إلى ثلاث مستويات، إما أن الرئيس متورط في كل هذا العبث وبتزكية منه. وإما أن حاشيته المقربة منه تنهب وتصادر كل أحلامه ووعوده، أو أن الرئيس واقع تحت إكراهات أكبر منه.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات