متمسكا بسيطرة قرطاج على الحكم : السبسي يرمرم ليرمّم الداخلية

Photo

كان جل المتتبعين ينتظرون ما سيتضمنه خطاب السبسي الذي تم الاعلان عن موعده قبل ايام على غير العادة ،وبتأكيد انه سيتضمن قرارات استثنائية مهمة في ظرف تعمقت فيه ازمة البلاد بتزايد الحراك الاحتجاجي الاجتماعي واتساع رقعته تجاه عجز الحكومة عن اخماد حركة الشارع ، وفي وقت تعددت فيه اقالات الوزراء وتكررت فيه اخطاء وزراء آخرين بررت تزايد المطالبة باقالتهم ، وهذا يجعل الحكومة غير متوازنة التركيبة والاداء ، ومهددة في وجودها

ومن جهة اخرى تعاظمت الازمة بالرفض الواسع سياسيا وشعبيا لقانون المصالحة الذي بادر به رئيس الجمهورية في وقت شديد الحساسية ، وفي وقت لم تبد فيه الحكومة التي رفعت شعار مقاومة الفساد ضمن اولوياتها عاجزة حتى على الحد من تفاقمه بوتيرة غير مسبوقة ... وزاد الطين بلّة ،اعلان رئيس هيئة الانتخابات واثنين من اعضائها نيتهم الاستقالة مما يفتح الجدل حول مدى حصانة واستقلالية الهيئات الدستورية في وقت يتم فيه الاستعداد الحثيث للانتخابات البلدية المقررة ليوم السابع عشر ديسمبر المقبل .

فهل فعلا أدخل خطاب السبسي البلاد في عهد ما بعد العاشر من ماي كما صرح احد مستشاريه قبل ايام ؟ قد لا يسهل استخلاص مستجدات ( قرارات ) بالاعتماد على خطاب رئيس جمهورية الاخير بتاريخ 10 ماي 2017 رغم الانتظارات ذات السقف العالي التي سبقته ورغم دقة الظرف المتأزم الذي تعيشه البلاد ورغم ان هذا الخطاب تم اخراجه في شكل بيان مفصلي موجه للشعب بحضور كافة الفعاليات والرموز السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحضور المؤسسسات الدستورية والسلطة التنفيذية والتشريعية .

لقد غابت في هذا الخطاب القرارات الاجرائية الملفتة للانتباه باستثناء تكليف الجيش بحماية مواقع الانتاج والاعلان عن الشروع في اعادة هيكلة وزارة الداخلية ، كما تعمد اظهار التزام رئاسة الجمهورية بحدود مشمولاتها والاكتفاء بالدعوة للوحدة الوطنية وحماية الدستور والمسار الديمقراطي ودعم استحقاقات التنمية ..

تجنب السبسي الخوض في ازمة الحكومة وأبدى تمسّكه باسقرار وفاعلية الهيئة المستقلة للانتخابات دون ان يؤكد معاضدته للمتمسكين بموعد الانتخابات البلدية . قد يتوقف البعض عند ما ورد على لسان رئيس الجمهورية خلال قوله : " ان المسار الديمقراطي مهدد " والذي اردفه بتطمينات مشروطة ...وهذه الرسالة السلبية سيتلقفها الخارج اكثر من الداخل ويأخذها على محمل الجد ّ لانها صادرة ن رئيس الجمهورية…

امّا الرسائل المبطنة والمسكوت عنه فقد تكون أشدّ اهمية مما ورد في منطوق هذا الخطاب : - وضع حكومة الشاهد : بعدم خوضه في ازمة الحكومة وتداعيتها ترك السبسي الباب مفتوحا لمآلات مصيرها ولم يستحضر بنود وثيقة قرطاج رغم انه مهندسها ، ولكنه ضمنيا ، استبعد سناريوهات تشكيل حكومة جديدة او انتخابات مبكرة وهذا ما يتماشى مع اغلب مواقف الطبقة السياسية رغم عدم رضاها على اداء حكومة الشاهد ، رأفة بوضع البلاد ودرءا للمآلات مجهولة العواقب . - عاد السبسي الى تثمين مبدأ التوافق وآليات الحوار ولمّح لائما حركة النهضة على مساندتها للتحركات الاجتماعية ، ولم يدع صراحة الى بعث آلية حوار اجتماعي موسع يهدف الى تكريس توافق اجتماعي وسياسي ، رغم انها فرصة سانحة لمغازلة اتحاد الشغل وتعظيم دوره استدراجا لحوار وطني اجتماعي - عرض قراره اعادة هيكلة وزارة الداخلية وتعمد الى عدم الاشارة الى دوافعه وخاصة منها ازمة وزارة الداخلية او ملامح اتجاهات التعديل الهيكلي المرتقب رغم انه امر في غاية الاهمية ومرتبط بمنطلقات داخلية وخارجية وسيكون له انعكاس كبير على سياسة وأمن البلادوخاصة مستقبلها ، ولكن يُفهم ان ملامح مشروع الهيكلة الجديدة جاهز ولن يكون محل استشارة تجمع كافة الاطراف المعنية ، ومعلوم اهمية دور جهاز وزارة الداخلية في تحديد مستقبل مسارات البلاد. فمن سيهندس هذه الهيكلة الجديدة ولأية أهداف عاجلة وآجلة. -

رغم أهميته فان قرار تكليف الجيش بحماية مصادر الانتاج في الطاقة والفسفاط فانه ليس جديدا عندما تبلغ الوضعية الامنية مداها، وهو امر يمكن ان يكون محل اجماع رغم ما سيتبعه من جدل محدود السقف . ولكن هذا البلاغ ورد بنبرة وصيغة تثير الاستفزاز وتبعث على التخوف وهي تستجلب بالضرورة تأجيج محرار التحركات الاجتماعية .

يفترض ان يتضمن هكذا قرار استعراض علاقة الجيش حاليا بحماية موارد الطاقة خاصة في المناطق العسكرية وتبيان دقيق لدور الجيش ومهامه المطروحة حالية وتدقيق دود تدخله وأسلوبه وآلياته وذلك ضمن قرار تفصل مضامينه وتبعاته . - رغم اشارة اللوم على حركة النهضة في بيانها حول تحركات تطاوين فان السبسي لم يشر الى مراجعات تعيد النظر في اتفاق الشيخان ومن ورائهما النهضة والنداء وهذا سيقود بالضرورة حركة النهضة الى مباركة هذا الخطاب والعمل على تعجيل صغة توافقية مع القصر للمصادقة على قانون المصالحة الاقتصادية. -

وعموما يمكن ان استخلاص ان رسالة هذا الخطاب مفادها ان هذه الازمة الحادة التي تعصف بالبلاد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا لم ترتق لتكون مخرجاتها نوعية ، ويستقرأ البعض هذا التسكين بسعي السبسي الى مواصلة تمكين الرئاسة من صلوحيات اكثر فأكثر وفرضها عمليا ولو بالالتجاء الى آلية الكواليس ، خاصة وان اغلب الملاحظين متيقنين ان السلطة التنفيذية تدار من قصر قرطاج وقد بنيت ترتيبات هذه اللعبة بتعيين رئيس الجمهورية ليوسف الشاهد بدل الالتزام بالدستور و تكليف رئيس الحزب الاغلبي ( الذي لم يعد يترأسه ) باختيار رئيس حكومة يتمتع بكافة صلوحياته ، وهذا ما يجعل الشاهد مجرد منسق لتعليمات قد ترد متضاربة من اولياء النعمة او ممن يقدرون على افتعال الازمة . - لقد تجنب السبسي الخوض في تفاصيل ازمة الحكومة لأنه يدرك انه مصدرها الاول وان يوسف الشاهد تتواصل هرسلته بضغوطات وطلبات متناقضة يتقاسمها القصر وما تبقى من النداء المشدود بالاتكاء على القصر ، كما ان الشق الندائي المعترف به من القصر وحلفاء الحكم تتزايد معاناته بسيطرة عقلية الغنائم والمحاصصة وليس بإمكانه تجاهل ضغوطات ( التصحيح ) المتزايدة من داخله ومن المنشقين عنه والتي لا يبتعد مدخلها عن انقاذ النداء من النهضة او انقاذ البلاد مما تبقى من النداء ودائما من النهضة . –

اما ردود الفعل حول خطاب السبسي فانها ولئن طمأنت شركاء الحكم ورئيس الحكومة بما يؤدي الى تثمين هذا الخطاب فان مستويات الحراك الاجتماعي تبقى على ماهي عليه وكذا شأن خطاب المعارضة المتمسك باقرار فشل حكومة الشاهد والطاعن في مشروعية التحالف الحكومي وتوافق النهضة والنداء وسيتعزز هذا الموقف بمالمصادقة على قانون المصالحة الاقتصادية بعد تعديله ، فيما ستنصب انظار شق آخر الى فحوى التعديلات المنتظرة التي سيجريها الشاهد ومن ورائه القصر على الحكومة…

ان السبسي سيستمر بمثابة المحور الابرز في قيادة المشهد السياسي التونسي ، ولئن استمرّ ادراك اغلب الاحزاب الفاعلة بأنه جزء أساسي من الازمة فإنهم سيواصلون معاضدته درءا لاستفراد خصومهم به ولكي لا يفعّلونه ضدهم ، فحركة النهضة ستظل تدفع توافق الشيخان استبعادا لنفوذ من يسعون لاستئصالها داخليا وخارجيا ، كما شقوق النداء المعارضة لخلافة ابنه رئاسة الحزب والمعارضة للتحالف مع النهضة ستظل متمسكة به رمزيا حتى لا يتغول خصومها ...

فيما تبقى جبهة اليسار رافعة لشعار المعارضة الاجتماعية محافظة على خيوط ارتباطها بمن تبقى من ذوي الجذور اليسارية في النداء مستفيدة من تفعيل نفوذهم ، وبذلك تحافظ على شعرة معاوية مع السبسي ... وعموما تبقى معالجة التحديات الاقتصادية الاجتماعية مغيبة بسبب الحسابات السياسية رغم انها تشكل اكبر التهديدات المستقدمة للاستبداد والفساد من جديد.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات