حين سقط من سقط، وهرب من هرب ، وقتل من قتل، من حكامنا الفاسدين تنبأ الكثيرون بمزيد من الشطب والكنس في حق حكام خونة قذرين آخرين، فإنتبه البعض ممن إحتفظوا بكراسيهم الوثيرة إلى دقة المرحلة وخطورتها عليهم وعلى المشاريع التي يعتبرون وكلاءها المخلصين في خدمة مفضوحة وممجوجة لأسيادهم، فقاموا ببعض البهرجات والخدع السينمائية وأضافوا بعض الطلاء الرخيص على دساتيرهم.
بينما إعتمدت دول المال والبترول على مضاعفة الأجور وتخصيص إعانات مالية مزجية، وتقديم تسهيلات في التسوق. في حين كانت سقف الثورات هو تغيير أنظمة تجاوزها العصر بقرون على جميع المستويات وأخصها المستوى الحقوقي والسياسي. وتحولت الثورة في سوريا إلى بحر من الدماء، وتمت سرقتها في مصر مرتين، بينما كان نصيب ليبيا تمزقا وتشتتا وحروبا من أجل عائدات النفط والنفوذ القبلي، من قبل ميليشيات معظم أفرادها لم يخبروا مفهوم الدولة كنظام ومؤسسات، وتوزع ظل القذافي في أصلابهم، وصارت ليبيا موزعة بين أكثر من قذافي واحد، وإن اختبأوا وراء لغة مغايرة.
كان للثورات طعم التحرر من أمراض نفسية وإجتماعية وإنسانية متراكمة، جعلت الفرد العربي مجرد عبد مقموع وخادم أمين من أجل النظام الذي يحكمه. وفتحت الإنتفاضات أفقا غير مسبوق في حرية التعبير عبر أرجاء الوطن العربي، هذه الحرية التي شاءت الأقدار أن تبرهن الأنظمة الحالية، بعضها قديم، وبعضها لقيط، عن كرهها لها، وبالتالي كره المشرئب إليها، وهو المواطن العربي، فقانون المظاهرات المصري يعتبر ردة إستثنائية في العالم المعاصر، كما أن قانون تجريم التعاطف مع قطر الذي سنته دولتا الإمارات والسعودية يعتبر إنتكاسة حقوقية وقانونية تكاد تصل إلى قبح القوانين القروسطية، ولكن في وسط هذه العتمة هناك نور خافت ويتمثل في المكاسب القانونية والتي حققها التونسيين بفضل ثورتهم ونذكر منها قانون حماية المبلغين عن الفاسدين وقانون حق النفاذ إلى المعلومة. فهل توقف قطار الثورات والانتفاضات العربية هنا؟.
يعلمنا تاريخ الثورات أنها أشبه بتحولات النار التي قد تخبو دون أن تنطفئ تماما، وتستعر بهَبّة ريح من أي جهة ما، ومادامت شروط إستعادة الشرر لوهجه كامنة في أحشاء الرماد. وبما أن المقام لا يتسع لذكر تطورات الثورات التاريخية سواء في فرنسا أو في إنجلترا، أو في روسيا سابقا أو في الولايات المتحدة الأمريكية أو في أي دولة من الدول التي شهدت ثورات شعبية مختلفة، هنا وهناك، كإيران مثلا، فإن القاعدة الأساسية هي أن تلك الثورات لاتلتزم بقاعدة ما، كالبحث مثلا في طبيعة الخلفيات الثقافية، أو في نوع الأسباب التي تظل نفسها، بما أننا نتحدث عن ثورات وإنتفاضات وليس عن إنقلابات أو تحولات إنتقائية، قد يقوم بها حزب ما أو تيار ما.
لقد منحتنا الثورات العربية دفقة جديدة من الحياة، وغيرت رؤيتنا إلى كينونتنا، وأمدتنا بشيئ جديد في أنطولوجية الحكم في المنطقة العربية، إذ لأول مرة تفرض الشعوب على حاكم عربي الهرب من قصره ذليلا حسيرا، وتعتقل حاكما بعد تنحيته من الحكم، وتشارك في إغتيال حاكم آخر، وإن في ظروف مشبوهة ويحيطها الكثير من الغموض. ليصير الحاكم أمثولة وأضحوكة أمام العالم. وهو الذي حسب أنه إله لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الذي ظن أن شعبه مجرد قطيع خنوع لا يمتلك أظافرا لخمش الظالم المستبد، وهوالذي ملك البلاد وإستباح دماء وأعراض العباد.
لأول مرة يصرخ المواطن العربي في وجه الحاكم الظالم، ولأول مرة يرضخ مجموعة من الحكام لضغط الشارع العربي، سواء كان هذا الخضوع مرحليا وتكتيكيا، أو كان عن قناعة وإستراتجية للتغيير، وهذا ما لم يصنعه أي حاكم عربي للآن. لكن ما يهم هنا هو أن كل الحكام العرب إبان ذروة الثورات العربية ساورهم نوع من الخوف الذي يعشعش في وجدان كل فرد عربي.
وصار بإمكاننا أن نرى في عيونهم علامات الخوف والحذر، ونقرأ على جباههم كل ضروب الحسابات من الضرب إلى الجمع الى القسمة والطرح. وهم الذين كانوا لا يعرفون إلا ضربا واحدا من الحساب؛ هو الجمع. خبت جذوة الثورات في العالم العربي، لكنها لم تمت ولم تنطفئ. وتمت فوضنة الثورة في سوريا وتحولت إلى حرب طائفية وصراع بين القوى الكبرى لبسط نفوذهم الدولي أوالإقليمي، وتم الإنقلاب على كل تجلياتها ومنجزاتها في مصر، وخلخلة مساراتها في تونس ولكنها بقية صامدة وتتقدم ببطىء نحو بر الأمان وساحة الديمقراطية، وإختطافها في ليبيا وتحولها لصراع بين الأخوة والأشقاء، وتحريفها في اليمن إلى حرب إقليمية بالوكالة بين إيران والسعودية، وبيع الحراك الشعبي في المغرب من قبل جهات معلومة في 2011 ولكنه يعود اليوم بقوة في هذه الأيام وخاصة بمنطقة الريف بعد حادثة الزفزافي، ورغم كل محاولاتهم لكنهم عجزوا عن إخفاء معالمها .
قد يخذلنا التاريخ، وقد نتسرع في جني الثمرات، وقد نسقط مرة وأخرى، لكن الشعوب تعلمت كيفية النهوض في وجه الحاكم الظالم المستبد الفاسد. وهو ما يحتاج إلى إختمار في وجدان الشباب وفي وجدان كل فرد عربي، كي تترسخ لغة الرفض لكل ما يخرجنا عن إنسانيتنا، ويجرح كرامتنا، ويسرق أرزاقنا، ويطبق علينا وحدنا قوانينه الجائرة. لهذا علينا أن نتذكر ثوراتنا وإنتفاضاتنا، فقد أمدتنا بشيئ أهم هو الإنتباه إلى إنسانيتنا. وهذا هو المهم.