شهدت عديد الحقبات التاريخية أخطاءً ارتكبها استراتيجيون وسياسيون في تحديد أهداف حروب معيّنة، وبحسب بعض المختصّين يندرج تحت هذا الاستنتاج ما شهدته المنطقة العربية بداية من سنة 20031 إلى يومنا هذا. المهم أن النزاعات القائمة تجاوزت الأهداف المقرّرة2 لها و خرج العنف المسلّح فيها عن السيطرة وتحوّلت هذه البلدان باستثناء دولة أو دولتين إلى مناطق فوضى ومراكز تكوين للمتطرّفين والإرهابيّين بدعوى الدفاع عن الاسلام.
ومن السّذاجة التصديق بفشل القوات الأجنبية في تحقيق أهدافها أو في محدوديّة قدرات مخابراتها على تكوين رؤية مسبقة عن تداعيات تدخّلها. فوكالات المخابرات- أمريكية كانت أو غربية- لها من المعلومات ومن الخبرة والذكاء ما يؤهلها لفهم المجتمعات والإيحاء لها لتقوم بنفسها بكل العمليات التدميرية المطلوبة داخل أوطانها وذلك وفقا لثقافتها. لذلك لا يجب أن نلقي بالمسؤولية كاملة عليهم لنبرئ أنفسنا فلو كبحنا جماح خلفيّاتنا الاديولوجية وسياساتنا التوسّعية المنفلتة لكان الوضع أفضل بكثير لدينا.
وفي هذا السياق تتنزّل الأزمة الحالية التي تتصاعد في الخليج العربي والتي تثير قلقا رغم ظهور محاولات وساطة لحساسيّة المنطقة، ودون الدخول في تفاصيل الخلافات الجارية، نأمل أن ينتظم الاصطفاف العربي في جبهة مقاومة الارهاب مجدّدا على أسس متينة و سليمة .. فالبيت العربي لا يتحمّل مزيدا من تصفية الحسابات والتفرقة.
لا أعتقد أن شرف هذه الأمّة يمكن تجاوزه لحسابات ضيّقة ويكون أحدنا أو البعض منا على نهج أعدائنا الذين يدّعون محاربة الإرهاب وهم الذين يمارسونه بطرق رسميّة ومعلنة.
ويكفي أن ننظر إلى ما حولنا ونستذكر بعض الوقائع المادية والأحداث التاريخية لتتبيّن لنا الحقيقة المرّة التي نواجهها خاصة إذا ما تواصل غياب التوافق وتشتّت القدرات وأهدار الإمكانات لدينا. لن نغوص بعيدا في التاريخ وسنقتصر على إبراز الإستنتاجات التالية" :
أولا: إن زمننا هذا هو زمن فوضى متنامية ومتسارعة، كما هو زمن الشك، وكما صرّح زبينياف بريزنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، في بداية سنة 2008:
" إننا نعيش حاليا مرحلة تعرف فيها البشرية جمعاء حالة من الغليان وعدم الاستقرار السياسي. ويمتد معظم هذا التخبّط من شبه جزيرة سيناء إلى المحيط الهادي، و من غرب الصين إلى جنوب روسيا، إن هذا الجزء من العالم المعروف بغليانه المتزايد يتوحّد باضطراد حول قضية واحدة هي الخوف من أمريكا أو كرهها أو هما معا".
وهذا ما يتفق تماما مع واقعنا العربي.
ثانيا: كتب غابرييال كولكو، المؤرخ والكاتب وهو أحد الباحثين في التاريخ السياسي الأمريكي، سنة 2015 في كتابه (العالم في أزمة) أن:
" النظام العالمي الراهن هو بصدد التحلّل بسرعة نتيجة سقوط الشيوعية والمعسكر السوفياتي. ففي السابق كان العدو معروفا وواضحا، كانت هناك حروب باردة ضد الاتحاد السوفياتي، أما حاليا فقد أصبح العدو هو "الارهابي" دون تحديد، أي ذاك الموجود في الشرق الأوسط وإفريقيا وفي كل مكان، لذلك أصبح عدم الاستقرار – اليوم- أخطر مما كان عليه سنة 1991.. وغدت الحكمة المتوافق عليها أيام الحرب الباردة غير ذي معنى، بل وخارج السّياق أيضا. لم تعد الأخطار في تصاعد فقط، بل إن الحدود الفاصلة بين الأشياء تلاشت معالمها لدرجة أصبحت معها قراءة الواقع من الصعوبة بمكان، وقد رافق هذه التطورات اضمحلال في قوة امريكا، ومعها اضمحل القرن العشرون الذي سيطرت عليه هذه القوة".
أعتقد هنا انه لا يمكن التنبؤ بسقوط دول أو باندثارها .. فلا يعلم الغيب إلا الله.. و لكن لا يمكن أن يشكّل العالم العربي أو أقطاره غنيّها و فقيرها استثناءً من خطوب الزمان ونوائبه.. لقد حان الوقت لمراجعة التحالفات القائمة ووضع حد للتفرقة وبناء رؤية مشتركة وإصلاح ما أفسدته السياسات غير المعقلنة.
ثالثا: أن الغرب يتباهى بانجازه الكبير" الاتحاد الأوروبي" الذي يضم 28 دولة، و وفقا لهذه الرؤية تشير الأدبيات وأنه المشروع الوحيد الذي نجح في التاريخ الحضاري، فالتطور كان ملحوظا وهاما. والحديث عنه يحيلنا حتما الى انجازاته من سوق موحّد وعملة واحدة وسياسة زراعية وصيد بحري مشتركة وموحدة. هذا فضلا عن تحصّل الاتحاد على جائزة نوبل للسلام لمساهمته لتعزيز السلام والديمقراطية وحقوق الانسان في أوروبا.
كان وراء هذا البناء الاقليمي رجال مثل شومان les Schuman و أديناور Adenauer وكاسبيري Gasperi وسباك Spaak، اتفقوا بعد الحرب العالمية الثانية على أن " لن يكون هناك حروبا مستقبلا..ولن يكون هناك انعدام أمن في أوروبا". لقد كانت البداية بتوحيد الصناعة الحربية الفحم الحجري والفولاذ واختاروا الاقتصاد كمرحلة ثانية ويعمل هذا الكيان المؤسساتي اليوم على تحقيق الأمن لمختلف شعوبها داخل أوطانها. لم يكن هذا الانجاز نتيجة لمسار طبيعي وإنما ثمرة مناقشات و في بعض الأحيان اختلافات، فمن ميزات البناء الأوروبي الانفتاح على الآخر و تجدّد الأفكار وتطوّر السياسات.
لا شك أن التحولات التي تهدّد المنطقة وانفراط العقد العربي الى دول متناحرة انعكس سلبا على أداء الجامعة العربية ومؤسّساتها، وعليه يمكن القول أن التحدي الذي نواجهه الآن هو لمّ الشمل العربي والإسراع بتغيير ميثاق الجامعة.
العقيد محسن بن عيسى :متقاعد من سلك الحرس الوطني
1 تاريخ الغزو العسكري للعراق بقيادة الجنرال تومي فرانكس تحت اسم " عملية حرية العراق".
2 حدّدت لهذه الحرب ثمانية أهداف: أولا اسقاط نظام صدام حسين. ثانيا: القضاء على أسلحة الدّمار الشامل في العراق. ثالثا: البحث عن الإرهابيين و طردهم. رابعا: جمع ما يستطاع من المعلومات عن الشبكات الإرهابية من خلال الاستخبارات. خامسا: جمع ما يستطاع من معلومات تتعلق بشبكة أسلحة الدمار الشامل. سلدسا: إنهاء العقوبات على الفور وتقديم الدعم الانساني . سابعا تأمين حقول النفط والموارد الأخرى. ثامنا: تهيئة الظروف لمساعدة الشعب العراقي الى الانتقال الى حكومة تنبثق من الشعب.