الوطن للجميع والدولة لذوي الإمتياز، الدولة للأغنياء و الوطن للفقراء، من يحمي ويموت في سبيله هم الفقراء ومن يظفر بالسلطة والكراسي هم الأغنياء، الدولة يبنيها الفقراء ويتمتع بخيراتها الأغنياء. هذه الخلاصة لكل ما يمكن أن يخرج به أي متأمل في مسار التاريخ الحديث للدولة العربية المعاصرة.
وأي محاولة لمحاصرة مفهوم الدولة عبر صورها التي حددها الفلاسفة أو المفكرون على مر حقب التاريخ سيدخلنا في متاهات لا مخرج لها. فهناك من يربط مفهوم الدولة بالسلطة الإدارية الحاكمة، وهناك من يربطها بثنائية الجغرافيا والنظام مع إختزال الشعب في رقم إضافي تابع .
وهناك من ينفذ بها إلى حدود الجمع بين الجغرافيا والشعب والنظام. ويجرنا مفهوم الدولة إلى إستتباعات مفاهيمية عدة كالحق والتجانس والوحدة. ومفهوم الدولة يستدعي كذلك مفاهيم أخرى، كالسيادة والسلطة والحق و الدستور والقانون كما يرى ذلك بعض المفكرون. ولعل هذا الإختلاف المفهومي والتداعي الإصطلاحي هو ما دفع "جون جاك روسو" إلى محاولة عقلنة العلاقة بين الدولة والفرد -المجتمع - بإبتكار مفهوم العقد الإجتماعي، كحل أمثل لتوضيح العلاقة بين المجتمع والدولة، أو بين الفرد والحاكم وبمفهومنا الحالي بين المواطن وصاحب السلطة.
لكن هذا لا يعني أن روسو كان أول من عمل على تأسيس مفهوم العقد الإجتماعي. فلو عدنا إلى وراء قليلا لألفينا الفيلسوف "سبينوزا" يمنح للدولة مفهوما متقدما جدا، بعد تحديده لغائية الدولة حيث يرى أن "غاية الدولة تتمثل في ضمان الحماية للأفراد، وليس في ممارسة السلطة، بل إن على الدولة أن تضمن الشروط الموضوعية التي تمكنهم من إستخدام عقولهم والعمل على تنميتها"، ومن ثم يؤكد الفيلسوف أن الحرية هي الغاية الأساسية من وجود الدولة.
وكثيرا ما يتداخل مفهوم الدولة مع مفهوم الحكومة، مما يضفي على الدولة طابع الهيمنة والغلبة بإسم السيادة، رغم ضبابية هذا المفهوم إذا أخضعناه للتشريح والتدقيق والتفصيل، وإستحضرنا دور ووظيفة الدولة والمنشأ الذي يتحدر منه أفرادها، ودور المفكرين أوالطبقة المثقفة عامة ودورالجيش والأغلبية العظمى من أفراد المجتمع الذي تسوسه حكومة ما.
وإذا كان الغرب قد طور من مفهوم الدولة بدءا من منتصف القرن الثامن عشر، إثر موجات النقد العلمي الذي رعته مختلف العلوم الاجتماعية والسياسية، وهو ما يمكن أن نجد له إرهاصات في كتب التاريخ القديمة، في الأدبيات التي تتناول علاقة الحاكم بالمحكوم، وحتى علاقة الدولة بالكنيسة، والتنصيص على حقوق الإنسان الكونية والمواطنة، والحرية والمساواة وهوتأمين الفرد من تغول الدولة الإستبدادية بالمساواة أمام القانون، ثم إلى مبدأ العدالة الذي عرف تطورا كبيرا مع ظهورما يسمى بالمجتمع المدني، حيث تم نحت مصطلح العدالة الإجتماعية؛ الذي إنثالت منه بالإضافة إلى مفاهيم المساواة والمواطنة والعدالة، مفاهيم جديدة كتوزيع الثورة وخيرات البلاد وحتى توزيع الأدوار والمسؤوليات داخل المجتمع والدولة ومنها الحقوق والوجبات، إلغاء الطبقات داخل المجتمع فالناس كل سواسية فلا فرق بين الفقراء ولا النبلاء ولا الحكام ولا المواطنين، ومن واجبات الدولة تجاه مواطنيها هي توفير الأمن وكل الضروريات مع ضمان كل الحقوق والواجبات.
هكذا يتشعب مفهوم الدولة في تطوره التاريخي، وتحولاته المفاهيمية. دون أن ينعكس هذا التطور وتلك التحولات على مفهوم الدولة في الوطن العربي. ففي دولنا العربية والتي لم تتحول إلى أوطان، للأسف مازلنا نعيش رعايا في أوطاننا، فنحن نقوم بواجباتنا ولا نتمتع بحقوقنا، فلا توجد حريات ولا عدالة ولامساواة، إذا ما إستعرنا تعريف توماس هوبز لهذه الدولة المهيمنة والمستحوذة، فإننا نوافقه تمام الموافقة على وصفه إياها بالدولة التنين البحري أو "الوحش الضخم ".