يتابع أشخاص برامج ربحية في القنوات، فيسبونها و يشتمونها في العلن، ؛ و يرسلون "الميساجات إليها في الخفاء، فتلك البرامج تقدّم الترياق السحري للحالمين بالثروة على عتباتهم، فالمال هو البوصلة الوحيدة،ويخرج بالتقسيط لقاء نزوة الرّبح.
هي برامج لها قدرة هائلة على صيد ذباب العقول اللاهثة وراء كسب غير متعب، فيكثر المتفرّجون حولها للحلم بثروة بضربة حظّ عابر، أليست الحياة بدورها صدفة مقدّرة على البشر،؟ فلماذا يبتعد عن لعبة لا يخسر فيها غير فتات مال يسير لا يكلفه شيئا.
تلك البرامج تنشر في المواطنين- إن كانوا يستحقّون تلك الميزة- انهزامية الفعل الجاد و العمل النّافع. وتقتل فيهم لذّة الحياة وهي الكسب الجدّي. فماذا يعني أن يشتعل الرأس بشمس حارقة أو يصيبه الارتعاش من برد قارس. وماذا سيربح غير السباب من صاحب العمل أو السخط من رئيس المصلحة.
أصحاب تلك البرامج ليسوا من الأغبياء فهم -عادة - يستندون إلى خنازير التفكير الّذين يجعلون علمهم في خدمة الدّينار. فيربحون مالا وفيرا و يربح أسيادهم منهم مالا مدرارا. فيضعون التّصوّرات الممكنة التي تجعل المتفرّج كالكلب يعوي في المقاهي و ينبح في الملتقيات و يدفع المال دفعا في دفعات قليلة؛ ولكنها تزن الذّهب عند لصوص البرامج.
يستخدم منتجوا تلك البرامج أفظع أساليب المغالطة و التمويه و الخداع ، فهم ما طرقوا باب المتفرّج ولا هم أجبروه على إمضاء وثيقة، بل عملهم هو وسوسة متواصلة مغلّفة بقناع الرّبح . فيندفع تحت ضغط التمويه و غطاء الخداع باعثا برصيده ليغتني غيره و يزداد هو سوءا. ولكن لا يشتكي، فيظل يمني نفسه بالرّبح حتى يستوي الفقرأمامه كاسرا يهدّ حياته.
لم تتوقّف تلك البرامج الربحية على نزع المواطن ماله من جيبه بأبشع وسائل سلب المواطن حقّه في إعلام يثقّفه و يرفّه عنه دون تقزيمه و "تهنتيله"؛ بل هاهم يتخطّون إلى ذبح كل القيم الجامعة، فأضحى ربح المال هو غاية الحياة و منى الإنسان ومن أجلها يمكن أن يتعرّى المشارك على الملأ و قد يصل الأمر حدّ حلق شاربه بما يعني ذلك من رجولة.
هذا هو الأمر الخطر، فأن تتجاوز تلك البرامج إلى عقائد المواطنين و المشترك اللغوي الثقافي و تسعى جاهدة إلى هدمها ليحل محلّها اللاشيء أي يتحوّل المواطن إلى شيء تافه يقبل ،للوصول إلى المال،أن يفعل ما لا يحسن بالحرّ أن يرسمه بالقلم.
يبدو أن أصحاب تلك البرامج هزّهم الانتصار على جيب المواطن، فانتقلوا إلى عقله و آدابه و لغته ليؤسسوا عبر تلك البرامج إلى عقائد خبيثة و ثقافة سافلة و آداب التلاشي و الانهزام و الانبتات. ولقد ساعدهم على المضي قدما هو غياب رؤية مجتمعية تجعل مثقفي البلد يجتمعون حولها و لا يتركون لهؤلاء المنتجين الاقتراب منها أو المساس بها فهي الأمن الثقافي الّذي يجمع أبناء الوطن الواحد.
سيبقى هؤلاء يلفون عسل الرّبح في سمّ القضاء على شعب ووطن، و سيجعلون عزيز القوم ذليلا تحت أقدامهم، و ستصبح غرفنا و بيوتنا و مدارسنا و مؤسسات عملنا وسخة قذرة تلوك عفن الكلام الّذي يسمعونه و يتناقلون قبيح الفعل و فظيع التصرّفات. فلا يمكن لأي درس أو معرفة في أطهر مدرسة أن تقتلع جذام الانبطاح و الدونية من عقول براعم الأطفال شاهدته بأجود كاميرا بشرية.
قالها يوما مظفر نواب:
هذا وطن أم مبغى ؟
هل أرض هذه الكرة الأرضية أم وكر ذئاب ؟
في هذه الليلة لست أدري لماذا تذكّرت الرّاحلين صالح جغام و نجيب الخطّاب؟
كنت صغيرا أستمع إلى رهافة حسّهما وصدق عفويتهما، وخصوبة إبداعاتهما. لم أكن أسمع في برامجهما- عدا حلقات- إلا :
• توقيرا للكبير.
• احتراما للأسرة
• تبجيلا للأمّ، و تقديرا للأب.
• وعيا بالمقدّس الثقافي المشترك.
• سموا في اختياراتهما الفنية .
• احتراما للمتفرّجين.
رحلا الغاليان. رحلا جسدا و بقيا ذكرى عزيزة. حلّ محلّهما الغربان فنعقوا و هاهم من الاستديو إلى مراكز الإيقاف ثمّ السّجن. ماعرفوا إنّ الإعلام رسالة الصّادقين و ليس المتحيلين.