العيد محبّة

Photo

مسك برأسه، قرّر أن يتخلّص من كل ذرة تفكير. أبناؤه في المنزل ينتظرون وصوله. وعـدهم في الليل أن يأتي بالنقود كي يشتري لهم ملابس العيد. سحقا لأرباب العمل. لقد أغلق هاتفه، و علّق على باب المعمل لافتة: أتأسّف لعمّالي، البنك أخبرني أنّ المال غير متوفّر.

عاد يجرّ أذيال الخيبة، و رأى ابنته وهي تعانقه: بابا سأشتري "روبة" بيضاء فيها بعض الزهرات الوردية، وحــــــذائي -قالتها بإطالة الكسرة على عادة الدّلال- سيكون ورديا وفيه نقاط سوداء، و جواربي أريدها بيضاء. و سأضع تاجا فوق رأسي كي أبدو أميرة قلب أبي.

أيقظته من غفوته صيحة عجوز يحذره من سيارة تقطع الطّريق، أسرع إلى ناصية الرّصيف، ثمّ واصل سيره. تمنى ان السّيارة كانت أسرع و أراحته من العودة إلى المنزل. لا مال . لا عمل. لا أمل. أبناء ثلاثة في الانتظار و امرأة تشتعل حنجرتها لهيبا كي توسعه ضربا كلاميا مزعجا.

غيّر مسار عودته، و تذكّر صديق صباه، خمّن أن يجد عنده بعض المال كي يستر له عورة الفاقة و خصاصة الفقر؛ ولكنه ما إن خطا الخطوة الأولى حتى رجع القهقرى. إنّه لبيد للمال كبد لجمعه. لن يسعفه بغير التوجع لفقدانه الزوجة و الأبناء في حادث مرور فظيع كان هو الناجي الوحيد.

كيف سأعود إليهم؟ لا يفهمون.. لن يحاولوا أن يفهموا أنّ صاحب العمل طردهم ولم يسدّد لهم الأجرة. لمعت في ذهنه فكرة جهنمية: لماذا لا يذهب إلى البنك و ينتظر شخصا تبدو عليه علامات الثراء و يشكو له حالته؟ ربّما.. وهل سيصدّقه؟ الأكيد أنه سيقدّم له ورقة نقدية لا تكفي لشراء خبزة.

زادت أرجله في التلاطم، و أوجعته سياط صراخ أبنائه وهم يسألونه لماذا كل أبناء الجيران اشتروا ملابس جديدة وهم لا. سمع صوت ابنه الكبير وهو يخفّف من روع إخوته:

أبي ليس له مال، صاحب العمل كان شخصا فاسدا.

رمقته أمّه بنظرات متوثّبة: قلت له:

صاحب العمل فاسد قذر آكل لعرق العمّال. كم مرّة قلت له غيّر هذا العمل و ابحث عن مكان عمل آخر. كنت ترفض متعلّلا بطيّبة "عرفك" و أنه لن يترككم دون مال" هاهو هرب و ترك لكم الحيطان و معلقة سخيفة.

انزعج كيف عرفت زوجته بامر المعلّقة؟ قابله مسجد كبير يخرج منه كثير من المصلّين، ذهب مسرعا باتجاه شيخ كبير طاعن في السّنّ تبدو عليه ملامح الوقار. و حالما اقترب منه نهره بشدّة وقال في وجهه:

لست أدري من يخرج هؤلاء المتسوّلين؟. هم كالقراد يثيرون الشفقة و يقطعون البركة.

لعن نفسه لأنه توجّه إليه، و انعطف إلى ناحية البحر، و قنع في الأخير أن يخفّف من هيجان الذّاكرة و حرقة الخصاصة، و ما إن مسّت ساقه ماء البحر البارد حتى شعر بأنّ الحياة قد دبّت فيه من جديد. نظر لامتداد البحر و زرقته. يا الله كم أنت كبير.

تدافعت حركته باتجاه داخل البحر، غمس جسده، و أخرج رأسه خاليا من أوجاع المال و ملابس العيد و زوجته الصّارخة أبدا. شعر بأنّه تطهّر من كل أدران تكاليف الحياة. عادت له رغبة الامتلاء بمحبة الله صانع الأشياء. برودة الماء زادته انتعاشا.

قرّر أن يعود بسرعة ليخبر عائلته بأنّ صاحب العمل فعل فعلته، ولم يقدّم له المال. وماذا يعني أن لا نشتري ملابس جديدة؟ هل العيد سيكون له طعم مذهل بملابس جديدة؟ هاهي الشّمس كل يوم تشرق وليس لها ملابس؟ هاهو القمر جميل دون أبهة النّاس؟

أقنع نفسه بأ نّ أحلى فرحة للعيد هي أن نحبّ بعضنا أن نكون مثل قطرات الماء تتجمّع كي تروي غلة الظّمآن. المحبّة يا أبنائي هي العيد و ليست ملابس العيد إلا رونقا يزيده إشراقا.
نعم أنا فقير ولكن لي قلب يحبّكم جميعا. نعم أحبّكم لأني لا أريد لكم إلا الخير.

عاد مسرعا. و ما إن دخل المنزل حتّى رأى……………..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات