كان ذلك صيف 1974 ,وكان موسم الحصاد قد انطلق لتوة بقريتي الملقاة هناك بعيدا في أحد أرياف ولاية الكاف ،وكنت راكبا حمارنا أنقل "شكارة"القمح إلى منزل العائلة,حين اعترضني ممرض القرية رحمه الله ليلقي عليّ الخبر الذي احتجت ساعة كاملة لأستوعبه:
-ياولد عمر أخي ما اسمعتش بروحك نحجت في السيزيام؟
فتحت فمي على الآخر حتى كاد يتمزق وحدقت مليّا في وجه محدثي لأتأكد أنه بكامل مداركه العقلية,قبل أن أصرخ :
-آنا سيزيام ؟راهو عامي لولاني هذا؟
رد علي المسكين بكل ثقة:
-نعرف نعرف والله نجحت واسمك مكتوب على نافذة إحدى القاعات بمدرسة القرية!
حينها فقط"رجعلي شاهد العقل"وصرخت صرخة عمنا ماجلان عندما رأى الأرض:
-بالحق ! أبّاي !نا نجحت في السيزيام!
وقفزت من فوق الحمار ليقع كيس القمح على الأرض ويفرّ الحمار,وجريت نحو المدرسة لا ألوي على شيء,وعندما لمحني أبناء عمومتي جروْا ورائي وكذلك فعلت الوالدة التي كانت تصرخ من بعيد :واش ثمة ؟ أشكون مات؟ووصلت إلى المدرسة ووجدت اسمي مكتوبا بين نخبة القرية ,وكانت أمي قد وصلت لتوّها ,وعندما أخبرتها بالنبأ العظيم زغردت فرحة ثم صفعتني "بكف "لا يقرأ لا يكتب مزمجرة تكاد تتميز من الغيظ:
-على جال السيزيام نضيّعوا شكارة القمح والبهيم؟"
سلكنا "الثنية العربي"المؤدية إلى كوخنا وسط دوار "الشواش"بجانب "وادي الحلوف"نهرنا الخالد الذي نشرب منه ونسبح ونغسل ثيابنا,وقد تضخم الطابور بانضمام نصف القيبلة إلينا بعد أن سمع الجميع بالخبر السعيد ,وكان الكثيرون ينضمون إلينا كلما اقتربنا من المنازل الريفية المتناثرة هنا وهناك ،وراحت خالتي تلحّ في السؤال:
-قلي يا طفل ’الشهادة اللي خذيتها اشنوة اسمها؟
فتطوّع خالي سعيد مؤدب القرية وبين لها أنني تحصلت على "البريفاي" brevet وهو ما يؤهلني لأكون من أعيان البلاد في المستقبل القريب !
الحقيقة أنّني كنت مزهوّا بنفسي أكاد أخرق السحاب عُجْبا وتيها ،كيف لا وقد تحصلت على أعلى شهادة في قريتي,بل وأصبحت أكثر ثقافة وعلما من العمدة نفسه الذي لم يدخل المدرسة أصلا بل حصّل كل معارفه من كتاب القرية!
وفي هذا الخضمّ ،وحدها كانت الوالدة ساهمةصامتة حزينة لا تحرّكها الأهازيج ولا الزغاريدولا جمل الشكر والمديح التي تنثال عليّ انثيالا"اشبيك أمّا؟مشك فارحة بيا ؟"همست لها وأنا أتوجس من ردّة فعلها،ولم يتأخر رد فعلها فقد صرخت في وجهي:
-كي تروّح بالبهيم وترجع الشكارةتوة نفرح ،أخي انت تنجح ونحنا نتبيلكو في جرد الكروش؟
ووصلت القافلة الغريبة إلى الدوّار:فلاحون بائسون أحرقت شمس جوان وجوهم الكالحة ،وأطفال يرقصون وينطّون هنا وهناك,ونساء يطلقن حناجرهن بالزغاريد والأهازيج،اتجه الجميع إلى كوخنا الخرب آخر الدوّار حيث وجدنا أبي جالسا "في الظل"مفترشا جلد خروف ,يترشف على مهل "كاس تاي منعنع على كيف كيفك كما يقول دائما",وما أن رأى الجموع متجهة صوبه حتى قفز فزعا وهو يصرخ"لاباس ؟واش ثمة؟هاك العزوز [يقصد الوالدة]ضربتها كرهبة؟"سارع عم بلقاسم البناي بالرد عليه:
-لاباس لاباس عم عمر:الطيب ولدك نجح في السيزيام!
صمت الوالد لحظات قبل أن يتساءل مستغربا:
-أنا سيزيام ,وقتاش عدّى السيزيام؟"قبل أن يستدرك مثل من استفاق من نوم عميق ،ويوجّه كلامه لي:وينو البهيم والشكارة؟وقبل أن يجيب أحد عن سؤاله,كانت الوالدة قد فرشت حصيرنا الوحيدة,وكليما باليا من أيام زفافها أمام الحوش داعية إلجميع إلى الجلوس,أشارت علي بأن ألتحق بها بعيدا عن الجموع وطلبت مني بكل حزم أن "نزرب روحي "ونمشي للعطار نجيب ستة قازوزات كريدي ومعاهم كليو وميا "كما أمرتني بأن أمسك لها ديكا ودجاجتتين "باش نعشو الناس"مذكرة إياي أنه بمجرد انصراف الجموع سيكون علي أن أبحث عن الحمار والشكارة"باش ما تكبرش الليلة "وكان تهديدا واضحا بأنني "باش ناكل طريحة نباش القبور"ولما جادلتها بأنني تحصلت على السيزيام وسأكون في المستقبل رجلا ذا مكانة في القرية ربما تتجاوز مكانة العمدة أو حتى رئيس الشعبة أو ممرض القرية زمّت شفتيها باحتقار قبل أن تجيبني ساخرة :
-يا وليدي افهم:راهو بلا غير سيزيام انجمو نعيشوأمّا بلا غير البهيم لا انجمو نحرثو لا نتنقلو لا نجيبو ماء !
وكانت ليلة ليلاء ترجل فيها الزمن ,ليلة رسخت في ذهني للأبد,فبعد أن أن ذبحنا ديك دجاجاتنا و"عتوقتين"احتفاء بالضيوف ،مُدّت القصاع والتهم الجميع مالذّ وطاب وأصرّ العمدة أن يجلسني بجانبه وراح يمتدح الإنجاز الذي حققته خاصة وقد نجحت من "الضربة الأولى"مما من شأنه أن يرفع رؤوس أهل القرية بل وأولاد عيار جميعا وربما هامات متساكني ولاية الكاف وما جاورها،وسرعان ما انخرط الجميع في الرقص والغناء وراحت خالتي عائشة تصدح بأنغامها الكافية الشجية ،فردد معها الجميع:هزي حرامك وخمريك,وهاك الحمامة اللي طارت.
وقد تسلطن عم محمد العياري فراح يحجل على رجل واحدة موجها عصاه للسماء مقلدا صوت البندقية,كما حُزّم بلقاسم الشاف بحزام أنثوي وراح يرقص رقصة البدو على أنغام زكرة بن عيدودي الذي أصرّ أن يشاركنا الإحتفال بالسيزيام ،وقد لاحظت أن الجميع كانوا يتقرّبون مني حتى أن "بختة"بنت العمدة وزينة فتيات القرية سمحت لي لأول مرة أن أغازلها بل وأن أقرصها من كتفها,ولا غرو,فأنا كما قال لي رئيس الشعبة هامسا,أصبحت من نخبة القوم,ومن الموعودين بمستقبل باهر وشرف لكل كبير أو صغير في القرية أن يتقرب مني وأن يحادثني وأن يخدمني .
يا إلاهي ,ما أروع ما حصل,ما أروع النجاح في ذلك الزمن البعيد,,,,لولا أن الوالدة كانت تذكرني في كل مرة بأن الحمار مازال مفقودا,وأن ساعة الحساب تقترب على مهل مع قرب انصراف المدعووين.