تعيد الانتهاكات الإسرائيلية الحاصلة في القدس المحتلة وفي الأقصى الشريف المسألة برمتها إلى تمثّل إسرائيل للقرارات الدولية ذات الشأن ولاتفاقيات التسوية مع منظمة التحرير الفلسطينية.
ذلك أن تل أبيب لم تعرف في يوم من الأيام أي اتفاقية تسوية مع أي شريك عربي على أنّها اتفاقية ملزمة إجرائيا وترتيبيا ومعنويا، بل إنها كانت ولا تزال تعتبر أنّ أمنها الاستراتيجي يشكل حدودها الحقيقية لذا فهي لا تتورّع في إرسال مرتزقتها لاغتيال المناضلين في تصرّف يكشف عن كينونة إسرائيل بما هي كيان إرهاب وإرهاب كائن.
جزء من المشهدية الحاصلة في القدس المحتلة يعود إلى طبيعة اتفاقيات التسوية الموقعة مع تل أبيب، وهي اتفاقيات تشترط إسرائيل على أن تكون بلا مرجعية قانونية إلا مرجعية التفاوض بحد ذاتها، وتفرض على الطرف المقابل أن يتنازل عن كافة الحقوق الوطنية المدرجة ضمن القرارات الدوليّة. بمقتضى هذا الأمر يستحيل التفاوض مرجعا أوّلا وأساسيا، وتتغيّر معه الكثير من المفاهيم والمرجعيات وحتّى المسلّمات.
الغريب هنا أن مدونة التفاوض تحتوي على مصطلحات ومفاهيم متناقضة مع نصوص القرارات الدولية، فمناطق الاحتلال الإسرائيلي تصبح مناطق نزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والانسحاب يتحوّل إلى إعادة انتشار، ناهيك عن المقاومة المسلحة التي تصير إرهابا وتخريبا وإلى غيرها من الدلالات التي تعمل على كي الوعي الفلسطيني والعربي واغتيال العقل وضرب المحددات الميثاقية في صورتها الأدنى.
جزء من مشهدية العربدة الإسرائيلية في القدس المحتلة يعود أيضا إلى انحسار الأطراف الدولية الضامنة لحسن تطبيق اتفاقات أوسلو 1993 وغيرها من الاتفاقات الأخرى في الطرف الأميركي الذي يمثّل العمق الاستراتيجي للكيان الصهيوني وامتداده الاقتصادي والإعلامي وحاميته الدوليّة.
صحيح أنّ اتفاقيات أوسلو وقّعت في 1993 زمن سقوط الاتحاد السوفييتي وعصر الهيمنة الأميركية على الأفكار والسياسات والثروات الطبيعية، ولكنّ الصحيح أيضا أنّ منظمة التحرير الفلسطينية بشكل عام، وحركة فتح بصورة خاصة، لم تبحث عن ضامنين دوليين حقيقيين لمسار التفاوض.
الحقيقة التي لا بد من الإشارة إليها هي أن مهمة الرباعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط (روسيا والاتحاد الأوروبي وأميركا والأمم المتحدة) كانت كامنة في تسهيل الإجراءات المالية لمنتسبي السلطة الوطنية الفلسطينية ودفع الرواتب للأمنيين وللحرس الرئاسي، ولم تعمل على استدرار دور سياسي في القضية الفلسطينية والأدهى أن الرباعية لم تتورع في إحكام حصار اقتصادي وسياسي على الفلسطينيين بعد انتخابات 2005.
لذا من المنطقي أن يعبّر الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي يمثل فلسفة أوسلو عن إفلاس سياسي وعن قلة حيلة استراتيجية حيال الإجرام الصهيوني في الحرم المقدسي عبر دعوته إلى الأطراف الدولية ممثلة في الولايات المتحدة للتدخل لدى إسرائيل لكفّ أذاها عن الحجر والشجر والبشر في الأقصى المبارك والقدس المحتلة.
ومن المفهوم أيضا أن يجسّد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية نفس المنطق، حيث استنجد بالجامعة العربية وبالرئيس التركي رجب طيب أردوغان باعتباره رئيس منظمة المؤتمر الإسلامي لإنقاذ الأقصى من براثن الاحتلال الصهيوني.
وفي استنجادها بفاعلين غير مؤثرين دليل على أن سلطة حماس في غزة تعاني من ذات مرض سلطة فتح في الضفة الغربية، وقوامه التفكير من داخل اتفاقات أوسلو ومن صلب منطق التسويات مع الكيان الصهيوني. ذلك أن الذي يقبل بمخرجات أوسلو سيفرض عليه إلزاما استبطان مدخلاتها من اعتراف مباشر أو غير مباشر بإسرائيل.
راهن الأقصى اليوم يؤكّد فشل كافة اتفاقيات السلام مع إسرائيل، فتل أبيب التي وقعت وثيقة اقتسام القدس بين شرقية وغربية تحتل اليوم الغرب والشرق، وتل أبيب التي صادقت على اتفاقيات تفاهم ثلاثي (أردني فلسطيني إسرائيلي) على المسجد الأقصى تضرب اليوم عرض الحائط المقدّس الوطني بالمسدس الاحتلالي.
ولدت الانتفاضة الفلسطينية 1987 من رحم الحلم الفلسطيني في تكوين دولة حرة ومستقلة، ونشأت الانتفاضة الثانية 2001 من خضم اليأس الفلسطيني في مسار التفاوض والتسوية، اليوم في حال اندلعت الانتفاضة الثالثة فستكون أكثر تأثيرا لأنها ستجمع بين حلم الدولة والقنوط من مسار التفاوض.