لغة الفكر بين اليسر والعسر

Photo

المعروف أن الكتب الفكرية لا تهب نفسها بيسر، فليس من السهل أن نقرأ كانْت وهيغل وهايدغر ولوفينا سودريدا ولاكان على سبيل الذكر لا الحصر، إذ إن مؤلفاتهم معقدة بشكل يكاد يجعلها حكرا على ذوي الاختصاص والأطروحات الجامعية، خصوصا في صيغتها العربية ذات الأساليب الركيكة والمصطلحات المتهافتة التي تزيدها انغلاقا.

ذلك التعقيد يراه أهل الذكر سمة من سمات الفلسفة، فهي تحفر في جينيالوجيا الألفاظ المستعملة، وتنحت مصطلحات جديدة، وتتساءل حول العلاقة الجوهرية بين الألفاظ والأشياء، ما يخلق نوعا من القطيعة مع اللغة المعتادة بوصفها جملة من العلامات الاصطلاحية، ومجرد وسيلة للتواصل.

وهو ما عناه ميرلو بونتي في تمييزه بين “الكلمة المنطوقة” و”الكلمة الناطقة”، بين لغة “مكرّسة” يملكها الجميع ولغة “تعبيرية” تتوسل بها الفلسفة، ويستأنس بها الشعر.

فاللغة التعبيرية، كما تقول الفيلسوفة فرنسواز داتسور، مغامرة حقّ، غايتها أن تترجم إلى كلماتٍ تجربةً فكرية لا تستسيغها اللغة اليومية المكرّسة. وفي رأيها أن عسر النصوص ضروري لإخراج القارئ من خموله الذهني وحمله على إعمال الفكر في مختلف القضايا المطروحة.

ولكن ما جدوى نصوص لا يفهمها إلا أهلها، ولا تنبسط لغير العارف كي يكتشف وينشدّ قبل أن يتعمّق؟

إذا كانت العرب تقول ألا خير في صدور تظل مقفلة على ودائعها، فإن ثمة من الفلاسفة أنفسهم من يتساءل عن جدوى انحباس أفكار بعض المفكرين في مغاور خاصة لا تغادرها، كما يقول الفيلسوف فريديريك شيفتر الذي يعترف بالصعوبة التي عاناها في قراءة “منطق” هيغل وفهم “دَزاين” هايدغر.

ففي رأيه أن ليس أثقل من فيلسوف يريد ابتكار لغته الخاصة، فيرغم القارئ على تمثل المعنى الشعري في قوله أو التزود بموهبة ربانية لفكّ تصوّره. فالذي يريد “أن يعطي الكلمات معنى أصفى من كلمات القبيلة” بعبارة مالارمي، عادة ما ينزلق إلى لغة تقنية متقعرة لا يفهمها إلا المتشبهون به والمرحبون بكل ما يعسر إدراك معناه ولو بعد لأي، حتى يكون التضارب في شرحه دليلا على عمق التفكير. وهو مصداق ما قاله مونتاني: “الصعوبة هي عُملة يستعملها المتفقهون، مثل المشعوذين، لكي لا تُكتشف أباطيل فنّهم التي يتقبلها الغباء البشري بسهولة”.

وفي رأينا أن الكتابة بلغة واضحة لم تقلل من شأن شوبنهاور وروسو وسيوران وليوبارديو لاروشفوكو، لأن من كانت أفكاره واضحة أمكنه تمريرها في لغة ميسرة، بخلاف من يتكلف الغموض.

يقول أينشتاين: “إذا لم تستطع أن تشرح مفهوما لطفل في السادسة فأنت لم تفهمه”.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات