تونس تتقدّم...لكن ببطء شديد...تقدّمها يبرز أكثر في المجال السياسي...لكن يمكن أن نُرجع سببه لتخفّفها من مثاقيل الدم العشوائي و الفوضوي (الدم المسفوك دون أن تكون له قضيّة يدافع عنها، و أغلبه في تونس سفك بعد 14 جانفي)...على عكس غالبيّة الدول العربيّة الأخرى التي رصدت الكثير من ساحاتها و الغالب من نخبها للإنخراط في دوامة الدم المغدور و العشوائي…
وإذا ما كان الرصيد من هذا الدم أثقل مما يقدر المجتمع على حمله و تحمّل كلفته فعندها يختل التوازن العام و يلجأ المجتمع وقواه للقوى التي بيدها و أيديولوجيتها و شرعيّة الغلبة بالسلاح لديها لكي تلذّذ و تشرعن و ومن ثمّ تستشهر حسم اختلافاتها و صراعاتها بمزيد من سكب الدم…
وهنا ،وإلى حدّ البعيد، وُفِّقت القوى المتحرّكة و المتفاعلة في تونس على تجنّبه و لو أنّهم اقتربوا في بعض المحطات منه و وصلوا حدّ هاويته الدنيا…لكن المربك الأساسي الذي جعل من التقدّم بطيئا هو الكم الكبير من القوى التي استجمعت قواها و تكثّفت أثقالها لكي تجذب سفينة تونس الحريّة إلى الأسفل أو إلى الوراء…و الذي ساعدهم أكثر في مهمّتهم الطبيعيّة تلك ( كلّ قوّة ستجذب و تنجذب تجاه القلاع التي ترى فيها منافعها ومصالحها)هو غياب النموذج القدوة، أو القائد القدوة و الذي تتوفّر فيه الكثير من الخصال و المزايا في مستوى القيم و المنهجيّة و الرؤى المستقبليّة إضافة للمزايا الجسمانيّة ( تمثل في الكاريزما: الصوت، قدرة على التبليغ و التأثير و التجميع، الجسد: خالي من الكثير من العيوب المنفّرة، الحضور: تأثير بالمظهر و الحضور و الأنفة الظاهرة..)
و أساسا يمتلك من الخصال و القيم و السمت العام ما يجعل المختلفين يتجمعون حوله و معه و يجتمعون به دون أن يحتكره أحد بمعنى قائد بحجم وطن نرى الوطن ممثّلا فيه وهو يمثّله أحسن تمثيل…نموذج لا يمكن حصره في حزب أو حزيب أو حركة أو أيديولوجيا…زعيم عابر للأيديولوجيات و عابر للأفكار و عابر للجهات و عابر للطبقات ولكلّ التصنيفات…نموذج مصقول بالمحن و أوجاع الوطن..يأخذ من النماذج بطرف..فتجد فيه سماحة غاندي و صبر مانديلا و صوت عبدالناصر و براغماتيّة بورقيبة و إرادة صلاح الدين وعدل الخطّاب و دهاء معاوية و تعفف سنغور و ديمقراطيّة شيسانو الموزمبيقي…ولو بنسب ضئيلة…
لماذا نحتاج القائد؟
لأنّنا شعب، مثل جيراننا، مازال في أطوار تشكّل الدولة بدائيّة..ومفهوم المؤسسات مازال بعيد عن أفعالنا و سلوكاتنا و أذواقنا و سيكلوجيتنا.و قريب جدّا من أقوالنا و أشعارنا و أمانينا….ومازالنا في مراحلنا الطفوليّة الأولى..
لذلك فإنّ النموذج له تأثير إيجابي على طاقتنا و على رؤانا و و على تفاؤلنا و حالتنا النفسيّة المستبشرة بالمستقبل و حتى على صحّتنا النفسيّة و الجسديّة ( لا نحتاج لوزارة للسعادة غير سعيدة) معا و يساعدنا على تقديم الصور الإيجابيّة أمام مرآة نفوسنا الفرديّة و الجماعيّة و أمام المجتمعات الأخرى …
كما له تأثير على تجاربنا الذوقيّة و المزاجيّة و على المدى المتوسط و الطويل على تجاربنا العقليّة و الذهنيّة و منتجاتهما…لكلّ ذلك نحتاج لقائد عامل و خدوم، متزن و عادل و ثاقب الرؤية حتى يعين طفولتنا على بناء مؤسسات يستغلّها في فض منازعاته و مطباته و مشاكله المستقبليّة و على الأقل طوال الثلاثة عقود القادمة..يعنى مرحلة إنتقاليّة متوسّطة المدى نتركها لقائد نافذ البصيرة يخرج من رحم الوطن ومن رحم معاناة وألم أغلب أبنائه و أمنياتهم السبع…