تعلن الأنظمة العربية نفسها وكيلة الحرب على الارهاب في أقطارها و تتخذ من ذلك وسيلة لاكتساب الشرعية و الرضى من المجتمع الدولي و لكنها تتغاضى ـ بل تحمي ـ– في صمت متواطئ من الغرب و الشرق - الحركات السلفية و هي الحاضنة الفكرية و الممولة للحركات الارهابية في العالم ـ و بدلا من ذلك فإنها تحارب بشراسة الأحزاب الإسلامية ذات الفكر المعتدل فإن تمكنت في ظرف عام من الإطاحة بحزب الاخوان من الحكم في مصر وزجت بقياداته في السجون ثم عمدت و لا تزال تعمد إلى التصفية الجسدية لأنصاره لمزيد إضعافه فإنها كانت أرحم بحركة النهضة في تونس و اكتفت بالتلذذ بمشاهدتها و هي تخلع ثوب الحكم عنها ثم تلزمها بالدخول بشكل هامشي و لكنه مورِّط في حكومة وفاق.
وكان ملك المغرب أسرع النظم في توريط الاسلاميين في الحكم فاداروا البلاد لبضع سنوات ثم دفعهم للخروج من الباب الصغير رغم الانجازات الكبيرة التي حققوها. أما في اليمن وليبيا فتوفر السلاح على الصعيد المحلي أعطى فرصة لاشعال الصراع المسلح مبكرا و برغم مساعي التوفيق و التصالح إلا أن مجريات الأحداث تقول بأن في اليمن كما في ليبيا لا يزال النظام القديم يفرض شروطه و لأن الثوار لا ينفكون يتمسكون بمطالبهم في الحرية و المساواة فإن صالح (و وراءه الحوثي) و حفتر (و معه عصابات القاعدة) و بتسهيلات كبيرة من الخارج يعمدان إلى إشعال حرب متنقلة في مدن البلاد.
و نظرا لتشابه هذه الأحداث و تزامنها الشديدين فهل يمكن الحديث عن مصادفة عربية ؟؟ الجواب : لا ـ
حتى و إن كان هناك اتفاق لهذه الأنظمة على إدارة اللعبة فهو نتاج إملاءات غربية تصدت لتنفيذها دول الخليج (السعودية – الامارات – البحرين ) ـ و لقطر أيضا دور فعّال في ذلك ـ
القضية ليست قضية إرهاب بقدر ما هي قضية مصالح اقتصادية باتت مهددة بتمدد المد التحرري الذي صارت تتزعمه الحركات الاسلامية التنويرية و اهمها حركة الاخوان المسلمين خاصة بعد سقوط قلعة الاتحاد السفييتي فوق رؤوس توابعها من اليساريين العرب.
إن الوطن العربي من أكثر المناطق ثروات في العالم – ففيه أكبر حقول النفط و الغاز و مناجم الحديد و الفسفاط و الذهب و فيه من أخصب الأراضي الزراعية بما يجعله متنوع الانتاج و فيه أطول و أجمل الشواطئ بما يمكنها ان تكون قبلة لسياح العالم ألا ان هذه الثروات تصب في جيوب طبقة معينة كانت في البدء – في العهد العثماني - مكونة من بعض العائلات الارستقراطية و مع دخول الاستعمار الاوروبي و بتوسع مجال الثروة نالت الدول المستعمرة ممثلة في بنوكها و شركاتها النصيب الأوفر و حافظت عليه حتى بعد خروجها في نطاق تفاهمات مع حكومات الاستقلال تترك لها بموجبها نسبا معتبرة، عمل الحكام الجدد على تقسيمه فيما بينهم مما عمل على توسيع الطبقة الارستقراطية على حساب الطبقة المتوسطة و الدنيا و زاد في حدة الفقر.
فشلت كل شعارات الثورة و الحرية التي تزعمها اليسار في الخمسينات و الستينات في إعادة الثروة إلى أهلها لافتقاد زعمائها – و خاصة منهم .اولئك الذين حكموا : عبد الناصر في مصر و الاسد في سوريا و بن صالح في تونس و بن بلى في الجزائر و عبدالله صالح في اليمن و القذافي في ليبيا – لافتقادهم في مرحلة أولى تأسيسية لرؤى أصلاحية واضحة ثم في مرحلة ثانية لانغماسهم في تقوية الجيش و إعطائه امتيازات رقابة فادارة فاستثمار قطاعات المناجم المربحة جدا و تحويل رجالات الحكم الى رجال أعمال لا هم لهم الا تكديس الاموال. و هكذا فقدت الاشتراكية العربية بريقها و أن حافظت بعض الأنظمة على وجودها في الحكم ( الاسد – القذافي – صالح) و حاولت تزويقه إلا أن سقوط بعضها الآخر (مصر – الجزائر – تونس) كان مدويا و انتقل الحكم الى أيدي بعض الليبراليين الجدد.
عرف اليسار أن يتعايش حتى مع هذه الانظمة التي لا طالما ناصبها العداء و هي بعيدة، والدافع لم يكن إلا محاربة الاسلاميين ، فتحول منتسبوه إلى مخبرين لدى النظام لمعرفتهم الشخصية بالافراد (أغلبيتهم خريجو نفس الجامعات حيث كانوا يتنافسون في عهد التلمذة) – على فكرة أكبر نسبة من إطارات الداخلية في التسعينات من اليسار – و في توافقات يوحي تشابهها بين الاقطار العربية الى أنها كانت مبرمجة بدقة، اكتفى اليسار بالميدان الاجتماعي و الثقافي على أن تتولى الاحزاب الموالية للغرب (الوطني في مصر _ الدستوري في تونس ) الشؤون الادارية و الاقتصادية و الخارجية.
ما الذي أخاف الغرب من الاسلام في الوطن العربي و أغلب الحركات المنادية باتباع تعاليمه محظورة و أكثر زعمائها في السجون؟
الناظر الى الواقع العربي في التسعينات يرى منطقة من العالم متماشية بدقة و بسرعة في الخط المرسوم لها اجتماعيا و اقتصاديا: مجموعة أقطار متمزقة ، شعوبها تكدح و ترزح تحت خط الفقر بينما أقلية تنعم بالخيرات في نمط عيش استهلاكي ( يمكن وضع كل الخليج في نطاق هذه الأقلية) إلا أن ما كان يمتنع نوعا ما على الادارة الامريكية خاصة بوصفها وكيلة الاستكبار العالمي (الصهيونية) هو الجانب الثقافي الذي اتجهت صوبه نسبة كبيرة من المجتمع العربي لعلها تجد فيه ما لم تجد من نصير لدى حكومات الاستقلال ( في الاربعينات و الخمسينات) ثم لدى الحركات التقدمية ( شيوعيين و قوميين) فكانت النصوص الموجهة الجديدة تطفح بالعبارات الايمانية و من هنا انطلقت الحركات الاسلامية تقدم نفسها كبديل.
ثم كانت حرب الخليج اختبارا جيدا للوعي العربي و كان إقدام صدام حسين على وضع شعار " الله أكبر" على العلم حافزا لكل المسلمين لا للعرب فقط للهبوب لنصرة العراق و كان ذلك للاسف دليلا كبيرا للعم سام على استعداد هذه الانظمة التي لطالما غذى وجودها لخيانته لما لهذا الدين من قدرة على توحيد الناس.
تمكن الغرب من خنق نظام صدام حسين و لكن خوفه من قوة هذا الشعار كان كبيرا و كان الهدف الجديد لسياسة الاستكبار العالمي هي القضاء نهائيا على الاسلام السياسي. و لكن كيف؟
تجربة التدخل العسكري المباشر كانت مريرة مثلما وقع في حرب الخليج الأولى و في الصومال. باقي الدول العربية تغلي بشدة مع تعاظم جشع حكومات الوكالة و الشركات العالمية الناهبة . إنها سوق حريات تباع فيها الحرية بأثمان باهضة يمكن أن يكون المستفيد فيه إيرانيا أو حتى هنديا. كيف العمل لإعادة توجيه المنفعة للصندوق الغربي؟؟ ليس أفضل من إغراق السوق بالحريات.
بشكل لا يزال غامضا إلى الآن يقع إقناع بن علي – شديد الغرور – بترك منصبه و اللجوء الى السعودية - بعد اشتعال مفاجئ لحادثة تكاد تكون بسيطة في صفحة الحوادث اليومية التي يتعرض لها التونسيون – شاب يحرق نفسه في سيدي بوزيد بعد ان تعرض للاهانة من طرف عونة مراقبة بلدية. فراغ امني كبير في شوارع تونس ثم في مصر ففي ليبيا يسمح للناس الملآنة قلوبها غضبا أو لهفة للنهب للخروج للشوارع و المطالبة بالحرية. ثم تعم هذه الموجة أغلب المدن العربية – لا غير، لا في آسيا و لا في إفريقيا و كأن الفقر و الظلم لا يوجدان إلا لدى العرب .
إن كل من شارك و عايش المظاهرات في المدن العربية ليلاحظ التغير المفتعل في الشعارات المرفوعة فيها، ففي البدء كانت (خبز – حرية – عدالة اجتماعية ) هي شعارات يسارية بالأساس تحولت شيئا فشيئا لشعارات (الله أكبر – شعب مسلم ..) لماذا ؟ لأن من بدأ الخروج للشارع هم اليساريون في غياب الاسلاميين الذين كانوا بالسجون ثم فتحت لهم الأبواب و سلمت لهم مكبرات الأصوات و سمح لهم بالركوب على الثورة.
و بينما كانت الطبقات الشعبية العربية تتناحر في الشوارع و الزقق في غياب كلي للأمن و للمعارضة (المزبهلة)، كانت امريكا(المستعمِرة الجديدة ) و فرنسا (المستعمِرة القديمة)– بقيادة داهيتهما كارتر و برنار ليفي – تؤسسان لهدفين : الايهام بالديمقراطية باقتراح انتخابات هدفها إيصال الاسلاميين لحكم لم يكونوا يحلمون به و هدف آخر: تأسيس شبكة إعلام يسيره اليساريون و أزلام النظام القديم للتشكيك و بث الادعاءات لتوريط الاسلاميين الحاكمين مع الطبقة الشعبية التي يتم تجويعها كل يوم اكثر فأكثر.و هذا ما نجحتا في تنفيذه.
و الآن، و بعد سقوط تلك الحكومات الاسلامية المعتدلة، أين هي تلك اللحى الشعثاء على المنابر و في كل زاوية ترغي و تزبد. لقد أكملت مهمتها في تشويه صورة الاسلام السياسي لدى المواطن العادي في الوطن العربي و خارجه و انكفأت في حضن صانعيها من مافيات الحكم و المال المحلية المسنودة من أنظمة خنازير الخليج و ضباع الغرب.