مسك بيده علبة السّجائر، ردّد في سرّه: لعنة الله على الدّخان و حامله. أخرج سيجارة، و بشّرها بالموت السّريع. أشعلها، و ملأ رئتيه بهواء عجّل له بكحة جافة. لم يكن يدري أن تكون السّيجارة رفيقة دربه في المآسي و بعض الأفراح.
اشتعل رأسه بذكريات لعلّ سرقته لـفائف صغيرة من جراب والده أقساها. فهي التّجربة المرّة التي جعلته خمسين سنة ينفث عباب نيران حشيشة خرّبت كل جميل في جسمه. لم يعد يفكّر في صحته. كلّ أمله أن تنجح ابنته، و تتخرّج طبيبة أمراض صدرية. ليكون هو أوّل مريض تجرّب عليه حيل الأطباء.
غلا رأسه، وكاد السّعال المتكرّر يفقده بريق النّظر. تماسك، و تذكّر ابنته مفيدة وهي تنتظر الأدوات المدرسيّة و الكتب. كيف يقنعها أنّه لا يملك مالا؟ ولكن مفيدة يجب أن تدرس. ولماذا لا تدرس؟ أ لأنّه فقير محتاج؟ المدرسة هي ملجأ الفقراء و حصن المحتاجين.
ودار في رأسه حوار بينه و بين ابنته، كانت الدّموع لسان الترجمان، و العناق هو الأفكار التي لم تتحوّل إلى حقيقة.
ابنتي ليس لي مال كي أشتري لك ميدعة و بعض الكتب.
أبي كيف لفتاة مثلي تستعجل الأيّام من أجل الدّخول إلى المدرسة من جديد أن تقف الأوراق القرطاسية حجر عثرة؟
ردّد في سرّه: لماذا الكراسات و الكتب اشتعل لهيبها؟ من أين لي بثمن كرّاس يصل 10دنانير و مجموعة كتب تتجاوز 40دينارا؟ هذا ليس عدلا. إذا كان من حقّ الفقير أن يدرس فلماذا يسلّطون علينا ضريبة الأدوات؟
لمح من بعيد ابن خالته وهو يسوق بغلة مطواعة. و تمنى لو أنّ الفقراء تحوّلوا إلى بغال؟ على الأقل لهم وظيفة حمل الأمتعة. لعن الشّيطان و قال: البغال لا تفهم و لا تعقل. ولكن مصيبة البشر أنهم يحنّون إلى الفهم.
تناول السّيجارة الرّابعة، و عرف أنّ الخلاص الوحيد هو أن يجمع الأهالي و يخبرهم أن صمتهم عن تعليم أبنائهم و احتجاجهم بضيق الحال هو الهوان عينه. من حقّ الفقير أن يدرس على نفقة المدرسة. المدرسة واجبها أن تقدّم العلم و الطّعام و الكتب.
شعر أن خياله يقهقه من وراء ستار. و يردّد "المدرسة واجبها أن تقدّم العلم و الطّعام و الكتب." و استقبلت أذناه عبارة ردّدها سياسي حقير: المدرسة لمن يستحقّها. لم يجد لفظا مقذعا كي يشتمه به. فعلا المدرسة لم يعد يقدر عليها إلا زمرة من المحظوظين.
الفقراء لهم فقرهم يسلّيهم و عوزهم ينسيهم. ماذا ستزيدهم المدرسة غير وجع الرّأس و المطالبة بالمساواة في الشّغل و التنمية؛ ليبقوا جهلة فهو الاستثمار الذي سيجعل سادة القوم حكّاما غير منقطعين.
قفز بسرعة، و أخذ يجري: وجدتها .. وجدتها .. ستدرسين يا ابنتي في المدرسة.